jeudi 15 juillet 2010

الدكتور محمد لحول : الزوايا والطرق الصوفية بالبلاد التونسية منطقة دوز* عيّنة جزء 1


لقد وجدت الزوايا بالمغرب العربي إطارا ملائما لتضطلع بدور خطير لا يختلف نسبيا عما اضطلعت به في كل البلاد الإسلامية. وعرف هذا الدور أطوارا مختلفة فتدرج من السلطة الدينية المحتشمة في طور النشوء والتأسيس إلى سلطة دينية نافذة في العصر الحديث (القرون 12 13 14 هـ/ 18 19 الثلث الأول من ق 20 م) ثم إلى سلطة باهتة في طور الأفول الذي مرت به منذ الثلاثينات (1).

ولا ريب في أن هذه الظاهرة تكاد لا تختلف بين أرجاء بلاد المغرب العربي إلاّ أن الخصوصيات الطبيعية والبشرية لجهة أو منطقة قد تلوّن هذه الظاهرة أو تلك بلون يضفي عليها طابع التميز ويغري بالغوص بالبحث في مظاهره وأسبابه.

ولعل السمة اللافتة عند النظر في الزوايا والطرق الصوفية بمنطقة دوز هي عدم التلازم بين حضور الزوايا بل وتواصلها وبين الطرق الصوفية. فالمتعارف عليه هو أن تكون الصلة متينة بين الزاوية والطريقة الصوفية فعادة ما تتخذ الطريقة من الزاوية مقراًّ به تنتظم لقاءاتها وتستقطب أتباعها.

فكيف للزاوية بمنطقة دوز أن تنشأ وتستمر وتؤثر تأثيرا عميقا في الحياة الروحية والاجتماعية دون أن يوازيها حضور لطريقة أو طرق صوفية(2) كما كان الشأن بالمنطقة المجاورة وهي منطقة نفزاوة(3)؟

ـــــــــــــــــ

*مدينة تقع في الجنوب الغربي من البلاد التونسية جنوبي شط الجريد على تخوم العرق الشرقي من الصحراء الكبرى، يبلغ سكانها حسب إحصاء 1994 حوالي 30000 نسمة ومن المرجح كما يذهب إلى ذلك محمد المرزوقي أن تكون كلمة دوز في أصلها بربرية ويستدل على ذلك باستعمال أهل البلدة الكلمة في صيغة المذكر فيقولون "دوز الأعلى" و"دوز الشرقي" و"دوز الغربي" ويرى أن كلمة دوز تعني الربوة.

(1) انظر : عمران كمال، الزاوية ظاهرة ثقافية: قراءة في الثقافة الدينية بتونس من بداية القرن 20 إلى بداية الثمانينات، ظواهر ثقافية في تونس في ق 20، كلية الآداب بمنوبة، 1996، ص ص 83 153.

(2) هناك زوايا قليلة غير طرقية كزاوية سيدي محرز وابن عروس والزاوية البكرية وزاوية سيدي الباهي، انظر: العجيلي التليلي، الطرق الصوفية والاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية 1881 1939، منشورات كلية الآداب بمنوبة، 1992.

(3) المنطقة الواقعة جنوبي شط الجريد وهي المعروفة اليوم بولاية قبلي.

لقد مثلت الزوايا دورا كبيرا ثقافيا في بلاد المغرب فحقّ الانتباه إلى تاريخية الظاهرة حتى ندرك الخصائص الجوهرية لهذا السلوك في تونس في القرن العشرين.

ولا ريب في أن الإلمام بالجوانب التاريخية المتشعبة لن يكون في متناولنا ولذا يمكننا الاكتفاء بتقسيم العمل إلى جانبين:

- الجانب الوصفي التحليلي وتكون الزاوية بمنطقة دوز منطلقا.

- الجانب التأليفي وفيه حرص على تعميم الظاهرة مقارنة بمناطق أخرى من البلاد التونسية وصولا إل تمثّل التحولات الجوهرية الطارئة على المجتمع التونسي في القرن العشرين من خلال ظاهرة الزوايا.

إن رصد الثوابت والتحولات والانتباه إلى التأثير الطرقي عبر المراحل التاريخية يقتضيان وضع الثقافة في إطار أنتروبولوجي يشمل النشاط المادي والنشاط الذهني في آن مما يجعل الثقافة نواة الحياة الاجتماعية منها تنبع وإليها تعود السياسة والاقتصاد والأخلاق.

ولا شك في أن هذا المنظور للثقافة يمهّد للربط بين الخطين الأفقي والعمودي الأول وصفا وتحليلا والثاني استقراء واستنتاجا.

لم يكن العمل بمعزل عن التحولات الاجتماعية العميقة وما اختيارنا منطقة دوز عينة للدراسة إلاّ تأكيد لهذا التوجّه في الدراسة.

فهذه المنطقة لها ما يشدها إلى التحولات العامة التي يعرفها المجتمع التونسي ولها ما يميّزها ويغري بالبحث، فمن المميّزات:

أ) الموقع الجغرافي إذ بقيت المنطقة إلى وقت غير بعيد (منتصف السبعينات) بعيدة عن كثير من أسباب التمدن الحديث وهذا قد يدفـع إلى القول إن صلة المنطقة بالظواهر الثقافية وخصوصا الزوايا والطرق الصوفية ضعيفة لأن صلات التواصل والاحتكاك مع المناطق الأخرى من البلاد التونسية بقيت محدودة(1).

ب) البنية الاجتماعية بنية قبلية وقد ساهم الموقع الجغرافي ونمط العيش البـدوي في رسوخ هذه البنيــة واستمرارهـا رغـم التحـولات الجوهريـة التي عرفهـا المجتمع التونسـي ورغـم ـــــــــــــــــ

(1) يعبّر أهل المنطقة عن هذا الانغلاق الجغرافي النسبي بقولهم: يا سعدكم يا أهل الرمل لا تسمعوا ولا تروا وهم بذلك يعبرون عن قبولهم أو ربما استسلامهم لواقع ولنمط من العيش مخصوصين.

محاولـة السلطـات السياسيـة المركزيـة في فتـرة الاستعمـار الفرنسـي(1) وفـي فتـرة بنـاء الدولـة الوطنيـة الحديثـة(2) والبنيـة القبليّـة الراسخـة المومـإ إليهـا سيكون دورها جليّا في إضفاء القداسة المميّزة على الشيخ الولي فهو ولي له كراماته وهو في نفس الوقت جدّ له قدسيّته.(3)

واللاّفـت فـي ظـاهـرة الزوايـا بمنطقـة دوز هـو التقديـس لوليّيـن فـي نفـس الوقـت والقيـام بنفـس الطقـوس تجاههمـا مـع التأكيـد علـى صلـة القربـى الوثيقـة بينهمـا.

والـلاّفــت أيـضـا هـو أن أهـل مديـنـة دوز أو المـرازيـق كمـا يحرصـون علـى نعـت أنـفسـهـم نسبـة إلـى الـجـد الأول للـقـبيـلـة وهـو

ـــــــــــــــــ

(1) لا ريب في أن الاستعمار الفرنسي كان يسعى إلى تغذية النزعة القبليّة إلى الحدّ الذي يضمن الحفاظ على مصالحه.

(2) حاول الاستعمار الفرنسي شق القبيلة إلى قسمين كبيرين هما: العوينة ودوز وعيّن شيخين (أو عمدتين حسب الاستعمال الإداري منذ سنة 1969) عليهما سنة 1894 بل وسّع الخلافات بتعيين "خليفة" وهو ذو رتبة إدارية وسياسية متميزة ينتمي إلى منطقة دوز الغربي في السنة نفسها وخصّ هذه المنطقة بشيخ سنة 1931، وأجّج الخلافات وقرّب شقّا دون الآخر، وواصلت الدولة الوطنية بعد الاستقلال السعي إلى إضعاف اللحمة القبلية - بعد أن زال الخلاف بين الشقين المذكورين بسبب تغيّر الذهنية التي أصبحت تسمو على الخلافات الضيقة إلاّ أن تلك النزعة ما زالت تطفو من حين إلى آخر بطرق مختلفة منها تقاسم المناصب السياسية والحزبية الهامة بالاعتماد على مقياس الانتماء القبلي، فمثلا يتم تداول مناصب رئاسة البلدية وعضوية مجلس النواب وعضوية اللجنة المركزية للتجمع بين أفراد الأقسام الكبرى الثلاثة للقبيلة، وكذلك يتم توزيع المقاعد بالمجلس البلدي توزيعا عدديا قبليا دقيقا، ولا يثير هذا التوزيع احترازا حتى من "النخبة" إن صح التعبير على سبيل الاستعارة خاصة أن عدد المتعلمين هام وللزوايا دور هام في نشر التعليم بالجهة، بل إن الاحتراز قد يتوجه أحيانا إلى الأشخاص لا إلى انتمائهم القبلي، وكذلك توزّع المساكن داخل المدينة يخضع إلى مقياس قبلي فكل فرع له حي خاص به له حدود مرسومة لا يخرج عنها. ولا يتم إسناد أرض صالحة للبناء لفرد خارج الحي المخصص لأبناء "عرشه" وعملية الإسناد موكولة أساسا إلى ما يعرف بلجنة التصرف المؤلفة من شيوخ "العرش" ودور البلدية يقتصر عادة على تزكية قراراتها.

(3) هذه الثنائيّة ستجعل المثقّفين لا يجرؤن على الاعتراض على اعتقادات عامّة الناس في الولي الصالح فهم إن اعترضوا على جانب الولاية فيه فلا يعترضون على تقديسه باعتباره جدّا جديرا بالتقدير.

مرزوق (1) يقدّسون وليّين في نفس الوقت وينـزلانهما تقريبا نفس المرتبة من القداسة(2). هذان الوليّان وهما حمد الغوث وعمر المحجوب المنتسبان إلى سيدي مرزوق (3) يحظيان أيضا بتقديس كبير من القبائل والقرى المجاورة.

ولا ريب في أن نعت الوليين بالغوث والمحجوب يحيل على مرجعية صوفية قد تجعلنا نذهب إلى أن قدومهما إلى المنطقة والاستقرار بها كان سعيا إلى نوع من المرابطة، وقد تزامن استقرارهما مع انتشار الحركات الصوفية بإفريقية وكامل المغرب العربي (4) ويسود المعتقد أن البركة يتوارثها الأحفاد عن الجدين ولا يختص بها جيل دون آخر فالبركة متأصلة - حسب اعتقاد العديد من المرازيق بينهم فلا يختلفون في حصول كل واحد منهم على نصيبه من البركة فهي مشاعة بينهم سارية بينهم سريـان دم الجد فـي عروقهم، وإنما يختلفـون أو يتفاوتـون في الكرامات التي يتحلون بها بتفاوت درجاتهم في صفاء النسب والانتساب إلى الجد وعادة ما يوصف من لا يرتقي

ـــــــــــــــــ

(1) إن الرابطة القبلية لدى المرازيق ما زالت جلية رغم التحولات الاجتماعية والسياسية الهامة والعميقة التي عرفها المجتمع التونسي وتتجلى الرابطة القبلية إلى يوم الناس هذا في : النفوذ القوي لشيوخ بطون القبيلة - أو ما يطلق عليهم اسم الجماعة في اتخاذ القرارات التي تهم حياة المجموعة (مثل تغيير معيّن المهر توزيع الأراضي العامة توزيع أغلب الأراضي الصالحة للحرث عند سيلان الأودية بمنطقة الظاهر أي المنطقة الغربية من جبال مطماطة والجفارة توزيعا يعتمد على بطون القبيلة وفروع كل بطن لا عدد المنتسبين إلى كل فرع أو بطن)، الاقتصار غالبا على المصاهرات الضيقة العناية المفرطة بسلسلة النسب الذي يعود إلى العباس بن عبد المطلب، وإقامة كل بطن داخل حدود جغرافية مضبوطة ويكفي أن نعرف انتماء شخص ما إلى عرش معين حتى نعرف دون أن نخشى الخطأ منطقة إقامته؛ ويتجلى التمسك بالرابطة القبلية أيضا في إسناد الآباء لأبنائهم الذين يولدون خارج مدينة دوز مهما نأت بهم الديار لقب المرزوقي في الوثائق الرسمية حنينا واعتزازا ولذلك لا نستغرب أن نجد في نفس العائلة أخوين يحملان لقبين مختلفين فالأول يحمل لقبا ما والثاني يحمل لقب المرزوقي، وقد يفسر هذا الحضور القوي للبنية القبلية لدى المرازيق إلى نمط المعاش حسب عبارة ابن خلدون إذ أن الموقع الجغرافي المتاخم للعرق الشرقي من الصحراء الكبرى فرض نمط البداوة على حياة السكان ودفعهم إلى اعتماد حياة الترحال بحثا عن الكلإ والماء كما أن عزلة المنطقة إلى زمن غير بعيد إذ لم تعرف إلاّ في منتصف السبعينات الكهرباء والطريق المعبدة وشبكات المياه والمدرسة الثانوية وما لهذا من نتائج على الحياة الاجتماعية حافظت على البنية القبلية.

(2) مع بعض الاختلاف الذي يراعي فارق السن فالغوث حسب الرواية الشفوية الراجحة هو عم المحجوب وفي رواية أقل تواترا هو حفيده، ولذا تبدأ الزيارة الظرفية أو الموسمية بالنسبة إلى أغلب سكان دوز بضريح الغوث ثم ضريح المحجوب.

(3) تذهب الرواية إلى أن مرزوق مرض عند انتقاله مع عائلته في اتجاه دوز ومات بقرية بني امحمد غربي قبلي فدفن بها وما زال ضريحه قائما بالمكان دون أن يمثل مزارا بالنسبة إلى المرازيق رغم انتسابهم إلى صاحبه.

(4) اعتمادا على الرواية المتواترة الراجح أن الاستقرار تمّ في القرن الثامن للهجرة ويمكن قبول حاليا ذلك انطلاقا من شجرة النسب (انظرها في الملاحق) فإذا افترضنا أن معدل عمر الجيل 30 عاما كما ذهب إلى ذلك ابن خلدون فإن الرواية المذكورة يمكن أن تصبح مقبولة، وتتساند هذه الرواية مع رواية أخرى مفادها أن المرازيق يعودون في نسبهم إلى قبيلة سليم بن منصور وهي قبيلة لحقت بني هلال في زحفهم على إفريقية.

الشك في صفاء نسبه (1) بأنه من أبناء "سلسلة" مما يكسبه مزيدا من القداسة لدى بقية أفراد القبيلة ولذا نجد عادة الشيوخ يحفظون شجـرة نسب كل عائلة وبطن ويقومون بتلقينها للأطفال بل يتباهى بعض الشيوخ أحيانا في بعض المناسبات العرضية كحصول خصومة حول أحقية ملكية أرض بين بطنين بامتلاك حجة ملكية تعود إلى مائة وأحيانا مائتي سنة تؤكد نسبة العائلة أو "العرش" إلى الجد الأول للقبيلة ويردّد بعض المرازيق القولة التالية "التالي فيه قدحة والقدحة تنقش منجل والمنجل يحصد فدّان" ومعناها أن أدنى أبناء القبيلة لا يخلو من بركة ولو كانت قليلة(2)، ونجد أن بعض أفراد القبيلة قد يصل بهم الحال إلى التباهي بهذا الإرث الروحي ويدعّمون القولة السابقة بقولة أخرى يردّدونها في بعض المناسبات وخصوصا عند الشعور بالضيم وهي "براكة وحذاقة ودبّوس خلاّها له بوه" أي أن الجد أورث أفراد القبيلة البركة.

ج) - خصوصية المنطقة المدروسة فيما يتعلق بظاهرة الزوايا والطرق الصوفية. فالثنائيات قائمة وصارخة منها:

* تقديس وليين صالحين في نفس الوقت وعلى نفس المستوى مقابل عدد من الأولياء يصل بهم البعض إلى الثمانين في منزلة بعيدة كل البعد عن منزلة هذين الوليين.

* التقابل بين مركز(3) المدينة مقر إقامة قبيلة المرازيق التي تمثل نسبة 85% من السكان(4) وبين القرى المجاورة كالقلعة ونويّل : على مستوى تعدّد الطرق الصوفية أو انعدامها وعلى مستوى تعدّد الأولياء أو الاقتصار على وليين رئيسيين فالمرازيق لا ينتمون إلى أية طريقة صوفية ولا يقيمون أيّة حضرة بل يذهبون إلى أن حضور أحدهم حضرة لطريقة صوفية بقرية مجاورة أو مدينة أخرى يعطّل نشاط الحضرة ولا يصل مثلا أتباع الطريقة العيساوية إلى حالـة "التخمر" إلاّ بعد الاستئذان

ـــــــــــــــــ

(1) بدون ريب ليس بمعناه العرقي بل ما يهمّ هو الاعتقاد في ذلك وأثره في سلوك الإنسان وحياته.

(2) من يخرج في سلوكه عن المألوف وتزل به قدمه يعتقد أنّه سيعود إلى الجادة لأنّ مفعول "الأصل" سيكون سحريّا وينتظرون ذلك بفارغ الصبر.

(3) تأخذ لفظة "مركز" لدى المرازيق معنى يكتسي بعدا صوفيا فيعنون بها أن بلدتهم تمثل قطبا متميّزا يشعّ بركة وكرامات على ما حوله ، بل على بلدان بعيدة من الكرة الأرضية عند الاستنجاد بهم.

(4) Voir : BISSON Vincent : Douz, la ville des Mérazig, permanences lignagères et dynamiques urbaines au sahara Tunisien, mémoire de maitrise de géographie, Tours (France) Septembre 1994 p 42 .

ممن هو حاضر من المرازيق. ومقابل هذا نجد سكّان القرى المجاورة وخصوصا قريتي القلعة ونويّل، وهما قريتان عريقتان(1) يعتمد سكانهما الحضريون على غراسة النخيل، ينتسبون إلى الطريقتين الصوفيتين المعروفتين وهما: القادرية والعيساوية(2) كما يعتقدون في عدد كبير من الأولياء فلكل عرش وليّه الصالح الخاص به(3).

د) - حضور الزاوية كمؤسسة مع اقتصارها على دور تعليمي يقتصر على تحفيظ القرآن وتوفير الإقامة والطعام للحجاج وعابري السبيل والمحتاجين دون أن تكون الزاوية (4) مقرا لطريقة صوفية أو طقوس صوفية. وتجدر الإشارة إلى أن المرازيق يستعملون لفظة الزاوية في معنى مخصوص فهم يعرّفون أنفسهم أحيانا بأنهم أبناء زاوية أي أنهم أهل تقوى وورع وبركة وصفاء طويّة(5) ولا شك في أن غياب الطُرُقيّة بدوز مع انتشارها خاصة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في كامل أرجاء البلاد التونسية وفي قرى مجاورة لدوز ظاهرة جديرة بالدراسة والتحليل.

ـــــــــــــــــ

(1) تتفق الروايات الشفوية على أن القريتين المذكورتين كانتا قائمتين قبل الفتوحات كما تتواتر الرواية بأن أرض "وادي السمارة" التي كانت بها عين جارية وبساتين من النخيل وكانت قائمة إلى بداية الستّينات تعرف بـ"الرقع" أو الرقاع ما بين المقبرة والجامع الكبير- كانت على ملك أهل نويّل وتبرّع بها أحدهم إلى الغوث عند قدومه إلى المنطقة ليستقر بها. كما تشير دراسة (MUEL J.: Moeurs et coutumes d’un village du Sud tunisien, El Golaa, cahier de tunisie, 1954, pp 67 – 93)) إلى أن أرضا قرب زاوية المحجوب هي على ملك عرش من سكان القلعة. ولقد تم العثور منذ ثلاث سنوات تقريبا على قبور شرقي بلدة القلعة تبدو مثيرة للاهتمام فالموتى قد وضعوا على هيئة جلوس ووضعت بجانبهم أدوات مع تناسب اتجاه القبور مع ما هو معروف في المقابر الإسلامية والأمر موكول لأهل الاختصاص قصد البحث والتنقيب خاصة أن المنطقة لم تنل بعد أية دراسة علمية أثرية على تعدد المعالم الأثرية وبالخصوص الرومانية.

(2) نجد بقرية القلعة طريقتي القادرية والعيساوية في حين نجد بنويل طريقة القادرية وهي طريقة استقلت بذاتها عن الطريقة القادرية بالجريد وارتقى مقدمها إلى مرتبة المشيخة.

(3) انظر الجدول في الملاحق.

(4) كانت توجد بدوز زاويتان: زاوية الغوث وزاوية المحجوب وقد أسستا على الأرجح في بداية القرن التاسع عشر وقد اختفت زاوية الغوث سنة 1957 بعد حلّ الأحباس العامة وتوحيد النظام التربوي بالبلاد التونسية (1958) وبقيت زاوية المحجوب تواصل نشاطها إلى بداية الستينات ثم توقفت لتتم إعادة بنائها في أواخر 1999 وتشرع في نشاطها في جانفي 2000 وهو أمر لافت يستدعي التوقّف عنده.

(5) وتمتد هذه البركة في اعتقاد العامة إلى النساء المرزوقيات لصفـاء سرائرهن فهن يستجبـن لاستغاثة الملهوف عندما يصرخ بقوله "يا مرزوقيات يا صافيات الحليب" كناية عن صفاء النية.

هـ) اقترن تأسيس مدينة دوز بالمرابطة ووسم الحياة فيها بميسم خاص فأهل دوز يأخذون اليوم بأسباب الحداثة في مختلف ميادين الحياة ولكنهم في الآن نفسه يحملون عمقا روحانيا لافتا، وهذه المزاوجة العسيرة والعميقة لا تبدو غريبة إذا عرفنا أن المدينة تأسست حول نواتين وهما ضريحا وليين صالحين متناظران مكانيا ينتصبان على الربوتين الوحيدتين المشرفتين على منبسط من الأرض(1) ومثل الضريحان والمقبرة(2) التي أحاطت بضريح الغوث المركزين اللذين أحاطت بهما المدينة وتوسّعت في كل الاتجاهات في شكل دائري يبلغ قطره عديد الكيلومترات ونجد التنافس شديدا - فيما يخص البناء - على القرب من المركز رغم أنه لا توجد عوائق طبيعية تحول دون التوسّع أفقيا خاصة في اتجاهي الشرق والجنوب.

و) - التزاوج الخصيب بين نمطين من العيش متوازيين هما البداوة والتحضّر إذ تشهد مدينة دوز تحوّلا دقيقا وحرجا بين نمطين من العيش بدويّ موغل في البداوة عرفـه السكان طيلـة قرون

ـــــــــــــــــ

(1) تفصل بين الربوتين مسافة تقارب الكيلومتر وقد توسعت الأحياء المحيطة بالضريحين وأصبحت تمثل نسيجا عمرانيا واحدا دون أن تفقد خاصية ذكرناها سابقا وهي أن كل فرع أو بطن من القبيلة له حدود جغرافية مرسومة رسما هندسيا لا يمكن أن يخرج عنها ونجد السلط الإدارية تساير هذا الواقع.

(2) توجد مقبرة وحيدة بالمدينة التي تجاوز سكان المنطقة البلدية بها حسب إحصاء 1994 الثلاثين ألف نسمة وهي تحتل مكانا هاما في قلب المدينة قرب الأسواق والمتاجر والمؤسسات الإدارية وقد سعت البلدية دون طائل في مرحلة أولى في أواخر السبعينات إلى التقليص من مساحة المقبرة المترامية الأطراف فاتخذت مطية لذلك تعلة بناء سور للمقبرة يحفظ حرمة الموتى ويعوّض الأسلاك الشائكة الفاصلة بين عالمي الأحياء والموتى، فأثار ذلك غضب الأهالي وبني السّور دون أن تقلص مساحة المقبرة وقامت البلدية بتخصيص فضاء مجاور للمدينة لمقبرة جديدة لم يدفن فيها إلاّ عدد قليل من الأطفال والنساء فلم يقبل السكان دفن ذويهم خارج "تراب الغوث" كناية عن المقبرة.

وتروي حكايات عجيبة تُجمع كلها على أن كل من فكّر في تغيير ملامح الضريح أو المقبرة يرى في منامه الولي غاضبا فيعلن في اليوم الموالي عن "توبته" علنا بل قد يصاب من تحّثه نفسه على الإساءة بإسهال مفرط!

فرضته قساوة الطبيعة وندرة الأمطار وأنتج حياة يغلب عليها الارتحال(1) في أعماق الصحراء بحثا عن الكلإ والماء ونمط جديد من العيش طارئ (2) فرضته مقتضيات التطور الذي عرفه المجتمع التونسي على أوجه عديدة منها الوجه الثقافي الديني.

إن الملاحظات الآنفة الذكر دفعتني إلى جانب جدة الموضوع(3) فيما يخص منطقة نفزاوة(4)

ـــــــــــــــــ

(1) حاول الاستعمار الفرنسي إغراء البدو الرّحل بالاستقرار لأسباب أمنية وسياسية وجبائية فبنى سوقا بدوز سنة 1910 تشتمل على ثلاثين متجرا بعد أن أحدث بئرا ارتوازية سنة 1909 وأغرى السكان بتسليمهم متاجر وبساتين من النخيل مجانا فرفض أغلبهم ولم يقبل بذلك إلاّ المقربون من السلطة العسكرية الاستعمارية. بل سعى الكثير حسب الرواية المتداولة إلى رشوة الشيخ -وهو صاحب خطة إدارية- بعشرين فرنكا حتى لا تسجل أسماؤهم على قائمة المنتفعين وقد نسجت الذاكرة الشعبية حكاية مفادها أن رجلا مجذوبا اسمه علي بن عليّة من عرش أولاد منصور كان تنبّأ في أقواله بما سيحصل من بناء سوق وإنشاء واحة وأكّد تخوّفه من الطارئ من ذلك قوله :

- نح علقاية (نوع من النبات الصحراوي) دير دقلاية

- نح باقلية (نوع من النبات الصحراوي) دير فطيميّة (نوع من النخيل)

- مخزّمة ملزّمة اناثي وذكور على بوفالس (أي الانصياع كالإبل المخزومة والانقياد للمال القليل)

- ثلاثين حانوت ما بين العوينة ودوز لأمّك حنين (المقصود بها فرنسا)

وفي نفس السياق نجد بيتا شعريّا ملحونا وهو : جَدِّي هَا يَا جَدِّي و المَكَّاسْ وْصِلْ خَلِّ افَّادَه يْوَدِّي فِي السِّرْوَالْ يْحِلْ

و معنى البيت تعبير عن رفض للجابي ودعاء عليه بأن يصاب بإسهال يجعله عاجزا عن ربط سرواله

(2) من الأسباب الأساسية التي دفعت المرازيق إلى الاستقرار الحاجة إلى تعليم الأبناء بالمدارس. فمع بداية الاستقلال بدأ المرازيق يطلّقون حياة الترحال التي تدوم في الغالب ستة أشهر من فيفري إلى جويلية - ليستقرّوا قرب الواحة أشهرا معدودات وأصبحوا في بداية السبعينات بدوا مستقرين ولكن الحنين إلى الرحيل مازال يراودهم فغالبية السكان يهجرون مدينتهم في عطلة الربيع المدرسية ليضربوا بخيامهم في الصحراء.

(3) لم تنل الزوايا والطرق الصوفية بنفزاوة حظها من الدراسة على غرار مناطق أخرى من البلاد التونسية مثل زاوية عين الصابون (باجة) فقد خصّها الأستاذ كمال عمران بدراسة متميزة. ولم أعثر إلاّ على دراسة تاريخية قصيرة للأستاذ الشيباني بن بلغيث موضوعها "أهمية الأوقاف العامة من النخيل في الحياة الدينيّة والاجتماعيّة بواحات نفزاوة خلال القرن التاسع عشر".

(4) تطلق لفظة "نفزاوة" على المدن والقرى الواقعة جنوبي شط الجريد، مع الإشارة إلى أن المرازيق يعتبرون أنفسهم خارج منطقة نفزاوة فأهل نفزاوة هم الحضر فقط من سكّان المنطقة وما يستتبع التحضّر من قيم ونظم لا يرتضيها البدوي.

وتروى في هذا السياق حكاية مفادها أن الغوث والمحجوب بعد قدومهما من الصعيد المصري والاستقرار ردحا من الزمن بأغنامهما وإبلهما بقرية شكشوك بليبيا ثمّ مغادرتها مع ذويهم إلى منطقة العيايشة بقفصة فترة قصيرة من الزمن ليتّجها إلى واحة تلمين قرب قبلي ولكنّ المقام لم يطب لهما وقد تعوّدا حياة الترحال وألفا البداوة، وفسّر المحجوب انتقاله إلى دوز بقوله :

نْهِزْ ذِرِّي مْنِ النَّـــزْ نَزْ اللِّي يْدِيرْ الغَصَائِـصْ

نُـص مَلْيْهَـا و العِـزْ ولاَ مَلِيـْهَا و الرْخَائِـصْ

والمعنى أن النـزّ وهو كناية عن الاستقرار بالواحة يولّد غصّة لا يقبلها كريم النفس الذي يأبى الذلّة مع الشبع ويقنع بقليل من الأكل مقابل الحفاظ على عزّته وهذان البيتان يردّدان على الألسن إلى اليوم.

إلى دراسة ظاهرة الزوايا والطرق الصوفية بمنطقة دوز.