vendredi 22 février 2008

حتى لا ننــــــــقرض ..


المرجع : موقع صوت العروبة
الموضوع : الفولكلور
الدكتور عبد القادر حسين ياسين
إن التراث ، بكل أشكاله وأنواعه، قـوة حية وجسر تتواصل عليه الأجيال . وبدون هذا التراث فان العلاقة فيما بينها ستكون مقطوعة ، بل أن كل جيل سيتحول إلى جزيرة تلوك غربتها . وفي هذا الجو المعتم تتولد أمراض التفـرقة والاغتراب والانقطاع عن الاصالة الأمر الذي يؤدي إلى الاغتراب التام .
إنني أدرك تماما بان هذا الشعور لا يحس بثقله إلا أولئك الذين عاشوا في حرمان كامل لسنوات طويلة من الثقافة الوطنية وتراثها الشعبي . ولا أضيف جـديدا إذا ما قلت أن الاستعمار (البريطاني والفرنسي) كان حريصا على تـدمير الثقافة الوطنية وقطع أسباب أية علاقة بهذه الثقافة لأنه يعرف بان هذه النافذة هي المعبر الأصيل إلى النضال ، والدرع الواقي من أية ريح أجنبية دخيلة تحاول إن تقلع الإنسان من جذوره .
ولهذا نرى ضرورة إعطاء التراث حقه ووضعه ضمن الاولويات والانطلاق في أعـمال قريبة في العمل الجدي بعيدا عن التنظير المحايد . في الواقع بدأنا في السنوات الأخيرة نسمع كلاما عن التراث وأهميته . وبالطبع لم يتعد هذا الكلام المقولة التي مفادها : " انه ينبغي إحياء التراث وتصفيته من جوانبه السلبية مع إبراز الجوانب الايجابية منها بهدف إتاحة الفرصة لها لكي تمارس فعالية التغيير في حياتنا الحاضرة " .
إن التنظير الذي تتضمنه هذه المقولة ظل ولا يزال تنظيرا معلقا في الهواء حيث لا تجد له تجسيدا عمليا في مؤسساتنا الثقافية واجتهاداتنا اليومية . بل أن هناك إهمال معلن ومضمر لتفاصيل هذا التراث ودقائقه . ونلمس أحيانا تنكرا له من طرف بعض العناصر ذات التفكير الغربي ، بحجة أن المعاصرة الحقيقية هي الانفتاح على العالم التكنولوجي الذي بيده التقدم والعلمانية . وهم يشيرون بأصابعهم إلى الغرب أو " الشمال " .
وفي غمرة انبهارهم بالغرب ومنجزاته ينسـون ـ أو يتناسون ـ أن ما يدعون إليه هو إسقاط الشرعية الحضارية للعالم العربي والإنسان العربي ، والاكتفاء بدور المستهلك وممارسة الدعاية لهذا التقدم الصناعي وكأن الإنسان العربي أصبح بوقا ليس إلا .
واعتقد بان هؤلاء لا يدافعون حقا عن الحضارة التكنولوجية الغربية السائدة في دول الشمال ولا يسعون إلى اكتشاف القوانين التاريخية التي ساعدت على خلقها ، ولا يسعون إلى إيجاد صيغة لزرعها في أوطانهم ، إنما القضية في أساسها هي القيام بلعبة تاريخية على الامتيازات الاجتماعية عند البعض منهم أو استهداف تحقيقها عن البعض الآخر .
وفي هذه الحالة لا يملك هذا الفريق إلا أن يعرقل اي مسعى يحاول جاهدا وبصدق أن يعود إلى المنابع الأصلية والتي لها قدرة الحضور في حياتنا وقدرة تشكيل وجداننا الجديد وعقلنا المعاصر بهدف بناء وطن عربي صحيح ومعافى يستطيع أن يشارك في صناعة الحضارة الإنسانية الحديثة ويقاوم التحديات المفروضة عليه .
لا توجد أمة بدون تراث . وكل شعب يهمل تراثه إنما يقدم رقبته لا شعوريا أو شعوريا الى المقصلة التي لا ترحم . وفي هذا المجال ينبغي أن نوضح بان استلهام التراث واستحضاره وبعثه والاسترشاد به ليس أمرا هينا وليس أمرا مستحيلا .
فهذا الأمر يتم عندما يشعر شعب ما بضرورة الحياة الحقة وبضرورة ان يكون له اسم وعنوان . وبعبارة أوضح : أن يحصل على استقلاله الحقيقي الذي يخـول له المشاركة في صياغة الحياة وترك الأثر على الأرض للإنسانية جمعاء ، ويستحيل عليه عندما يرضى بدور التابع والمستهلك والصاغر دائما .وهـذه ، ببساطة ، هي المسالة التي ينبغي أن يعيها شبابنا .
إنَّ تعزيز الصلـة بيننا وبين تراثنا مرهون بإعادة النظر في المسالة الثقافية بشكل عام والمثقف بشكل خاص . وهذا لا يعني أن ثمة دعوة لعزل المثقف عن الجماهير بل يتضمن دعوة مخلصة إلى رفع المثقف وتوفير المناخ والظروف الموضوعية له لينغمس في صميم حياة الجماهير . وأول أمر عاجل هو إعادة الاعتبار له (أو مساعدته على إعادة الاعتبار له) أو مساعدته على أن يعيد الاعتبار لنفسه بـعـد أن انتزعت منه قيمته وجُعـل في وضع سلبه كل خصائص الإنسان الواعي والموجه والناقد ، وبعبارة أوضح أصبح لا يفكر إلا فيما يأكل ويلبس ويسكن ، أي انه أصبح تقريبا في مرتبة الحيوان الذي تقوده غريزته .
في هذا المجال أسجل بان المثقف ينبغي أن يتحدى هذه الظروف القاسية كلها ليرتفع إلى مرتبة الإنسان الحر الذي يرسم المستقبل للآخرين ويضيء لهم سبل البناء والتحرر. ولكن لماذا كتب على المثقف أن يشقى باستمرار وأية أسباب تحول دون ذلك كله ؟ إنني أتمنى أن نصل إلى وقت نرى فيه المثقف يشكو من عذاب عملية الخلق والإبداع ، بل إنني احلم أن اسمع خبرا يؤكد ذلك . وفي الوقت نفسه كم يسعدني لو تزال من أمامه العراقيل التي تضيع عمره دون أن يحقق أمنيته في مجالات العمل الثقافي الرحبة .
لعل الانصراف عن التراث يتضح في إنـعـدام جهود جماعية تعمل وفق تخطيط علمي وتحت الرعاية الكاملة إذ لا تتوفر هناك مراكز للأبحاث والدراسات . أما الدراسات القليلة التي نقراها من حين لآخر فهي نتاج جهود فردية إذ لا يمكن لها ان تبعث وتحاور التراث في صورته الشاملة ولا يمكن ان تجنبه ما نسميه بوجهة النظر الشخصية التي تتسم بصبغة ذاتية وذات اتجاه إيديولوجي خاص أحيانا تجده يتعارض مع الاتجاه العام ، وأحيانا أخرى نجده في الموقف المناهض . ورغم ذلك فان هذه الجهود الفردية المبذولة محاولة لسد الفراغ وأي فراغ .
ونتيجة لهذا التعتيم ظهرت محاولات شتى منها الانتقائية ومنها البراغماتية ومنها السلفية التي ترى أن الخير كل الخير في التراث وحده وان كل ما أتى بعده فباطل وتزييف . ومنها التي تعتقد أن العودة إلى التراث مضيعة للوقت وان المهمة الحقيقية هي الاهتمام بحياتنا المعاصرة ومعطياتها الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية . ومنها الانفرادية التي تستخدم جزء من التراث نفسه لضرب وحدة التراث .إن القيمة الجوهرية للتراث تنبع من تنوعه – ولا أقول اختلافه – وتناقضه الصدامي وتنبع من قسماته النضالية . وعـنـدما كانت نظرتنا إليه وعلاقتنا به نقدية وموحدة استطعنا إن نحوله إلى عنصر يوحدنا ويجعلنا امة تتجاوز الخلافات الهامشية إلى ما هو جدير بالاحترام أو المتمثل في بناء الذات الجماعية وخلق الجسور بين الأجيال لتتواصل وتغذي بعضها يعضا ، وبالتالي يجعلنا امة تشارك بقسطها المتميز في الحضارة الإنسانية حتى لا يسجل التاريخ علينا بأننا كنا ذات زمان ولكننا انقرضنا دون أن نترك أثرا يدل علينا .