dimanche 3 février 2008

العرب المحدثون وتراثهم الثقافي الشعبي جزء 4 - عبد الصمد بلكبير


الجزء الرابع : ملاحظات في منهجية تأريخ الادب الشعبي
لنقف إذن. وبعد هذا الاستعراض السريع للملامح العامة لمعطيات الموضوع عند أهم خلاصاتنا منه:
1-1- نتيجة لاختلاف، وحتى تباين الشروط العامة الجغرافية - الاجتماعية والثقافية - السياسية لكل قطر أو مجموعة أقطار عربية عن الأخريات نلاحظ مدى الاختلاف والتباين أيضا بين منطلقات وأهداف البحث والباحثين منها في موضوع ثقافاتها وتراثها الشعبي. ومن المؤكد أننا نستطيع أن نلاحظ ذلك أيضا بالنسبة لكل قطر على حدة. كما نستطيع فوق ذلك أن نلاحظ التباين في الدوافع والأهداف بالنسبة للقطر الواحد في أزمنة تاريخية مختلفة من سيرته الثقافية - السياسية. غير أن هذا سيخرج بنا عن الغرض من هذه الفذلكة. لذا سنقتصر على الملامح العامة لخصائص تلك العلاقة، بغض النظر عن الجغرافيا وعن التاريخ.
أ - تكاد جميع الأقطار والشعوب العربية وبلا استثناء، تكون قد مرت، أو هي تمر الآن، بلحظات تاريخية ينزع فيها المجتمع، أو فئات منه، وكذا الدولة أحيانا، نزوعات انعزالية قطرية يقع خلالها التأكيد على البحث، في التاريخ وفي الثقافة، عما يعزز ويعطي للاستقلال السياسي لكيان المجتمع والدولة مشروعية ثقافية وتاريخية. وحيث لا يسعفهم الى ذلك تاريخهم العربي المشترك، فهم يلتجئون الى إحدى الوجهتين.
1- تاريخ الحضارات ما قبل الاسلامية كالفرعونية بالنسبة لمصر والعاشورية في العراق والفينيقية في الشام والقرطاجية في تونس.
2- وعندما يقع الافتقار الى هذه "المشروعية التاريخية" أو تدعو الضرورات السياسية الى تجاهلها أو تهميشها كما هو حال المغرب والخليج العربيين في الحالة الأولى أو مصر الناصرية والعراق وسوريا البعثيين. فعندئذ يقع الارتداد والتركيز على الخصوصيات التي يتضمنها ما يسمى بالتراث الشعبي، المطبوع عادة بطابع التميز والذاتية... اللذين تفرضهما الجغرافيا من جهة والعوامل التاريخية الخاصة من جهة أخرى.
وحتى ذلك، فليس في الأمر جديد بالنسبة لتجارب بقية الشعوب، وبالأخص منها السابقة علينا الى العصر الحديث. فأوروبا أيضا سترجع بنفس العناية والاهتمام الى ما قبل تاريخها المسيحي لتستقي من تراثها اليوناني -الروماني حاجاتها للانطلاق والنهوض. ثم في مرحلة لاحقة، ومع
بدايات تأسيس القوميات والدول الوطنية الحديثة، سترتد كذلك نحو تراث شعوبها اللغوي والثقافي، تستمد منه مقومات وعناصر إعادة وحدة كياناتها على أسس موضوعية جغرافية وشعبية، تمثل بالنسبة لها ميثاق الوحدة الوطنية الجديد: الثقافي والسياسي لبناء الدولة الحديثة.
إن الطبقة الوسطى العربية ونخبتها الثقافية والسياسية، ستعمد هي أيضا الى نفس الصنيع، حسب شروط كل منها على حدة. فهي في مرحلة حاولت استرجاع ذاكرتها الأعمق، وذلك بالرجوع الى التاريخ الحضاري لأقطارها، لأبعد من اللحظة العربية الاسلامية ذلك كان فعل المثقفين بمصر والعراق والشام وتونس خصوصا والذي تجلى في انبعاث نزعات فرعونية وأشورية وفينيقية وقرطاجية، تمظهرت من خلال جملة كتابات وبحوث وابداعات، وبالتالي من خلال رموز ثقافية وسياسية مشهورة نذكر من بين أهمها مفكرين وأدباء أمثال: طه حسين، لويس عوض، نجيب محفوظ... ودريني خشبة، يوسف كمال الحاج وسعيد عقل... والحبيب بورقيبة.. الخ غير أنها جميعا انتهت كأطروحات وان لم يكن كأشخاص، الى شبه اندثار وانهزام ثقافي.
وفي لحظة لاحقة سيقع البحث، وانطلاقا من نفس الدوافع واستهدافا لنفس الغايات، التماس الخصوصية الوطنية والتميز القطري والشعبي، عن طريق التنقيب في الذاكرة والممارسات الثقافية الشعبية، فتزدهر لذلك العناية بتجميع المأثورات، واصدار المنشورات وتأسيس المجلات ومراكز البحث الجامعية والبحوث الطلابية الى الخارج... وتأثير كل ذلك أيضا على مستوى الابداعات الفنية والأدبية في الأغنية والمسرح والقصة وفنون الشكل والحركة والسينما.
1- 2- لقد كانت المعضلة الفعلية أمام الطبقات الوسطى العربية ومثقفيها في هذا الصدد هي التباس علاقات أبحاثها وأهدافها منها، بالمحاولات السابقة للاستشراق الغربي لاقتحام نفس الحقول والبحث في نفس التراث الثقافي قبل الاسلامي والتراث الشعبي، وطبعا فقد كان ذلك لأهداف لا وطنية ولا شعبية، بل لأجل تخريب الذاكرة العربية الاسلامية وعزلها قطريا عن امتداداتها القطرية الثقافية والسياسية القومية والدينية، ومحاولة طمس الذاكرة الأقرب و الأبعث على المقاومة والصمود والجهاد الا وهي الذاكرة العربية الاسلامية.
لم يهتم الباحثون العرب، في مثل هذه الميادين عموما، بحل هذه الاشكالية وتجاوزها على مستوى التمييز في المناهج والأهداف اعتقادا منهم في الغالب، أن نواياهم الوطنية وحدها تكفي لازالة الالتباس، اضافة الى معرفتهم المسبقة بجهل مواطنيهم لأبحاث المستشرقين المكتوبة عادة بلغات أجنبية، مضافا لذلك تغير الشروط والظروف التاريخية وبالتالي تغير وظيفة الأبحاث تلك خلال مرحلتهم عن المراحل الاستعمارية السابقة.
والحق، أن الطبقات الوسطى العربية، لم تكن سوى امتداد لشقيقاتها أو ربيباتها الأوروبية، وهي لذلك تشترك معها في جملة قواسم مشتركة اجتماعية، ثقافية، فكرية لا تسمح لها بالانعتاق عن التبعية لها فكرا وممارسة، ولم يكن خروج الاستعمار الرسمي سياسيا ليعكس خروج قيمه ومناهج تفكيره واستراتيجيته الثقافية إن في المدرسة والجامعة أو في الاعلام وما يسمى بالثقافة الجماهيرية وأجهزتها. وأكثر نخب هذه الطبقة، استقت من معينه وقرأت في مدارسه، سواء في أوطانها أو عن طريق الرحلة نحو الجامعات الأوروبية... فلم يكن من المنتظر لذلك، وكمر حلة انتقالية تكاد تكون حتمية، أن يتحرر المثقفون العرب المحدثون من إرث المدرسة والثقافة الغربية الاستشراقية. وبالرغم من نواياهم الوطنية غالبا، فإن جلهم انساق، وبدوافع شبه أكاديمية وشبه تقنية تتوهم إمكان وجود علم محض محايد وبعيد عن كل أهداف أو مقاصد ايديولوجية. فاستمروا عموما في نهج في نفس سبل الاستشراق متوسلين بنفس طرائقه غالبا، مع بعض محاولات الاجتهاد في التعديل والتوظيف.
1- 3- ومع بدايات الخمسينات، ومع الانبعاث المتجدد والشامل للفكر العربي والروح القومية خصوصا مع الثورة الناصرية بمصر وحركات التحرير في المغرب.. ثم القضية الفلسطينية... الخ سيبدأ نوع من التغيير في المجرى الثقافي العربي في اتجاه تجديد الاهتمام والعناية بالتراث العربي الاسلامي، وانحسار النزعات الثقافية القطرية الانعزالية كالفرعونية وغيرها وتوجيه البحوث والدراسات في موضوع التراث الشعبي، في مناخ تخدم الاستراتيجية الجديدة، بما يعني البحث عن المشترك الثقافي الشعبي بديلا عن التركيز على الخصوصيات القطرية فيه وربما يكون من أبرز اعلام هذا المنحى: د. أحمد رشدي صالح رع. العزيز الأهواني..
1- 4- واليوم، وباستثناء حالة المغرب العربي التي سنقف عندها لاحقا، نلاحظ أن الجديد في هذا الميدان يحمل مفارقة صارخة. إن أكثر الأقطار العربية عناية واهتماما بالثقافة الشعبية في لحظتنا الحالية هي من جهة أقطار الخليج العربي باستثنا0السعودية وفلسطين المحتلة من جهة أخرى.
في الأولى نلاحظ عناية فائقة وتركيزا استثنائيا على المأثورات الشعبية، يتمثل في سيل من المنشورات والرسائل الجامعية والندوات الدولية والمتاحف... وتعتبر أبرز نماذج ذلك مجلة المأثورات الشعبية الصادرة بالدوحة في قطر منذ 1985 بشكل منتظم حتى الآن. همها الاستراتيجي اثبات المشروعية، اعتمادا على خصوصيات شعوبها الثقافية في العادات والتقاليد والمأكل والملبس والصنائع والاحتفالات والأمثال واللهجة.. الخ.