dimanche 3 février 2008

العرب المحدثون وتراثهم الثقافي الشعبي جزء 5 - عبد الصمد بلكبير


الجزء الخامس : في معنى الثقافة الشعبية ووظيفتها.
"الثقافة الشعبية " هنا تستعمل كمفهوم وكمود لتزكية وضعية سياسية بالاساس.
على النقيض من ذلك سنلاحظ كيف أن الشعب الفلسطيني، وخصوصا في الأرض المحتلة، وفي الطليعة منه مثقفوه، سيولي هو أيضا لتراثه الشعبي بمختلف مظاهره وتجلياته، عناية تكاد تفوق عناية دول الخليج، وانما في اتجاه مختلف تماما.
فأمام الارادة السياسية للكيان الصهيوني الاستعماري والاستيطاني للأرض، والعامل على طرد واجلاء سكانها منها، والذي يخطط بشكل جهنمي لفصل السكان عن أرضهم وتراثهم وذاكرتهم بل ومحاولته الدؤوبة لسرقة ذلك التراث وتبنيه وبذل الجهد لتوظيفه في مصلحة أطروحاتهم العنصرية وأهدافهم الاستيطانية.. الخ سيحس الشعب الفلسطيني أن من أولى مهامه وأوكدها هو العمل على حفظ ذلك التراث وإنقاذه من الأخطار المحدقة به، وإعادة توظيفه. لتأكيد الهوية المهددة وضمان توريثه الى الأجيال الشابة الصاعدة.
"الثقافة الشعبية" هنا، وعلى نقيضها هنالك، تعتبر عنصر مقاومة وكفاح لتثبيت الهوية وترسيخ الوجود وابراز الكيان الوطني المستقل، ولكن في غير انفصال عن بعده أو أبعاده العربية الاسلامية، المناهض أخطار الاجتثاث الثقافي - الفكري والعاطفي مقدمة للاجتثاث الوجودي نفسه على الأرض.
وكما في الخليج العربي، فإن للشعب الفلسطيني اداته المتقدمة في هذا المجال، مجلة تصدرها بتعثر (نتيجة المصادرات والمنع) ومنذ 1974. لجنة الأبحاث الاجتماعية والتراث الشعبي في إطار جمعية (انعاش الأسرة) بمدينة البيرة. وذلك تحت اسم "التراث والمجتمع" وتصدر عنها طبعة ثانية في المنفى بالأردن. وقد تمكنت بالفعل من خلال اعدادها كما من خلال منشوراتها الموازية ومعارضها ومتاحفها.. الخ أن تعيد الحياة وتجدد وظيفة العديد من عناصر التراث الشعبي العربي الفلسطيني والذي كاد ينمحي أمام المخططات الجهنمية للاحتلال لولا سابق محافظة الشعب الفلسطيني عليه بكل الوسائل المتوافرة في ذاكرته ووعيه وبين يديه.
2- رغم كل المجهودات المحترمة والتي انجزها الباحثون العرب المحدثون فيما يتصل بما يعتبرونه ثقافات شعوبهم فانها مع ذلك لم تبلغ بعد شأو ما أنجزه أساتذتهم في الميدان من الباحثين الأوروبيين حول تلك الثقافة بالذات. سواء من حيث الكم الوفير الذي جمعوه كنصوص أو كمواد وتسجيلات.. أو من حيث الكيف المتصل بدقة مناهج التحقيق والتصنيف وشمولية التحليل وسعة الاطلاع... وربما يعود هذا، في جزء منه، الى حداثة عهد الباحثين العرب بهذا النمط من الدراسات مقارنة الى سابق عهد الغرب بها. وكذلك الى دور المؤسسات العلمية ومؤسسات التمويل والادارة الغربية الاستعمارية والتي كانت تقف بكل ثقلها المادي الاداري والتمويلي، وراء تلك البحوث، على خلاف الأحوال بالنسبة لعموم الادارات السياسية والعلمية العربية، والتي وقفت على العكس مواقف التشكيك والحيطة، أو بالأقل الحياد (باستثناء دول الخليج) تجاه هذا النوع من الدراسات. مضافا الى كل ذلك الموقف المتحفظ بشكل عام للمجتمع، وللمثقفين العرب، باتجاهيه الرئيسيين: السلفي والحداثي. والذي كان وما يزال يميل عموما إما الى تبني التراث العربي الاسلامي المكتوب دون غيره منطلقا للتفكير والعمل أو بالعكس الى تجاوز كل ذلك نحو تبني منجزات الغرب وأطروحاته ونمط تفكيره ومعاشا حسب آخر ما وصلت اليه متجاوزين بذلك شروط بداياته ولحظاته التأسيسية.
3- بمراجعة ولو سريعة، للائحة الباحثين العرب في موضوع الثقافة الشعبية، يتبين كيف أن أكثرهم لم تكن له بالموضوع علاقة اختصاص علمي جامعي، بل غالبا ما تم ذلك على سبيل الهواية أولا قبل أن يتوغلوا في ممارسة البحث أو غيره (تحقيق ترجمة تأليف تعليمية...) ويضحوا اثر ذلك كالمختصين. ومن جهتها فإن الجامعات العربية وباستثناء مصر والجزائر، لم تبادر الى تأسيس فروع أو أقسام متخصصة في الموضوع، وأحري أن تؤسس مراكز أو لجانا أو حلقات للبحث العلمي والجماعي المنظم. وأكثر الباحثين الجامعيين العرب المختصين، تحولوا نحو هذا الاختصاص من اختصاصات أخرى سابقة أدبية أو فلسفية. لذلك كان حظ الجامعات العلمية العربية في الدراسات الثقافية الشعبية ضئيلا نسبيا بالمقارنة الى دور الكتابة الصحفية أو الأدبية والتأليف الصادر عن المبادرات الفردية خارج مدرجات الجامعة.
4- بالمقابل فإن أهم أدوات العرب المحدثين في الاشتغال والاهتمام بهذا المجال ستمثله بلا منازع مؤسسة الاعلام وفي المقدمة منه المجلات الشهرية العامة أو الفصلية المختصة. و لا شك أن مصر كانت المبادرة الأولى الى ذلك ومثلت مجلتها الشهرية "الفنون الشعبية" الصادرة منذ 1969 برئاسة تحرير د. ع. الحميد يونس ثم د. أحمد علي مرسي. لبنة التأسيس الأول والرائدة في هذا الصدد. وقد قامت بأدوار فعالة جدا وعلى جميع المستويات المتصلة بموضوعها: تعريفا وترجمة ودراسات ميدانية ونشرا لنصوص أو تصوير المواد... تتصل بالثقافة الشعبية عموما والمصرية على وجه الخصوص. وقد انقطع صدورها الشهري لفترة قبل أن تعيد صدورها مجددا في دورة فصلية.
وفي الدرجة الثانية من الأهمية وأيضا من الناحية التاريخية تأتي المجلة العراقية "التراث الشعبي" الصادرة منذ 1969 تحت اشراف مؤسسها الرئيس لطفي الخوري وبمعية جملة من المحررين الباحثين. وهذه أكثر من السابقة تميزت بانتظام صدورها الشهري من جهة وانشغالها بعموم الساحات الثقافية الشعبية العربية وكدها في توفير عدد من النصوص والمواد الثقافية الشعبية مع نوع من التوجه الهروبي الواضح للعيان من حيث بحثها عن المشترك الشعبي العربي وليس ما يؤكد على الخصوصيات المحلية القطرية.
وفي الأردن صدرت أيضا ولنفس الغرض مجلة "الفنون الشعبية الأردنية" سنة 1975. وقد سبق أن تحدثنا عن المجلة الفلسطينية "التراث والمجتمع" الصادرة منذ 1974 الى اليوم بالأرض المحتلة تحت اشراف لجنة مختصة على رأسها الأستاذة المجاهدة سميحة سلامة خليل.
وفي دول الخليج، هنالك محاولات متعددة غير أنها متعثرة أكثرها استمرارية ومر دودية مجلة "المأثورات الشعبية" الصادرة سنة 1985 بالدوحة تحت اشراف ع. الرحمن المناعي وهي أيضا مفتوحة أولا على دول الخليج وثانيا على عموم الكتاب والموضوعات الثقافية الشعبية العربية.
وفي اطار المغرب العربي، فلا شك أن تونس كانت الأكثر ريادة في هذا المجال باصدارها ومنذ 1965 مجلة "الفنون الشعبية" ثم المغرب بمجلته المتوقفة "فنون" والتي لم تكن مختصة بحال وإنما كانت تقف بين الفينة والأخرى عند موضوعات وقضايا تتصل بالثقافة الشعبية المغربية. أما ليبيا فلها منذ 1980 مجلة مختصة تحت اسم "تراث الشعب" تحمل لها كشعار دال "شعب عربي واحد وتراثه واحد" ولذلك فهي مثل شقيقتها العراقية تهتم باستكتاب عموم الكتاب العرب المختصين وغيرهم، مستهدفة اظهار عناصر الوحدة لا الخصوصية في ثقافات الشعوب العربية.
وفي غير ذلك، فقد اهتمت عموم الصحافة الأدبية العربية بالموضوع، سواء من خلال اعدادها العادية أو المتمحورة حول محور ما من محاور الثقافة الشعبية، وأهمها في هذا الصدد من حيث العناية تأتي المجلة الفصلية الكويتية "عالم الفكر" و "البحث العلمي" المغربية ومجلة "أمال" الجزائرية.. الخ.
5- وبالنسبة للتأليف المتخصص أو شبه المتخصص، نستطيع أن نلاحظ على الببليوغرافيا العربية في هذا المجال غلبة الطابع المدرسي التعليمي من جهة والترجمة عن الانجليزية خصوصا وأحيانا عن بعض لفات أوروبا الشرقية من جهة أخرى، وفي سياق نفس الملاحظة نستطيع التأكيد كذلك على أن أكثر التأليف التعليمية نفسها هي بمعنى ما كانت نوعا من الترجمة بتصرف. وهو أمر عادي بالنسبة لثقافة حديثة الصلة بهذه المواضيع، اضافة الى ضعف التأطير وفقر التمويل المؤسسي واقتصار المجهودات على المبادرات والتضحيات الفردية غالبا.
ويبقى مجال الدراسات الميدانية وتجميع النصوص والوثائق والمواد وتحقيقها وتصنيفها ودراستها وكذلك التأليف المعجمي في اللفات الدارجة ومصطلحات ومفاهيم الثقافات الشعبية المتداولة..الخ ضعيفا جدا، وأحيانا منعدما تماما بالنسبة للعديد من الأقطار العربية.
6- لقد تمت عناية العرب المحدثين بمواد شعوبهم على سبيل الممارسة الابداعية الأدبية والفنية، أكثر وأهم منهم على صعيد الممارسات العلمية: النظرية والميدانية فاذا نحن تجاوزنا مؤقتا ما هو بارز للعيان والأسماع على صعيد الفناء العربي والذي أنجز فيا الكثير والثري جدا في مجموع الأقطار العربية وبالأخص منها لبنان ومصر والعراق والمغرب... حيث مثل الرجل المعاصر الامتداد الخلاق والبارع للتراث الشعبي العربي في هذا الميدان وعلى يد فطاحل الرجل العربي من أمثال سعيد عقل والأخوان رحباني وبيرم التونسي وأحمد فؤاد نجم وصلاح جاهين وأحمد الطيب العلج وعلي الحداني...الخ وهو ما سنقف عنده في أخر هذا البحث فإننا نجد أن بقية فنون القول والشكل والحركة والتمثيل لم تقصر من جهتها عن الامداد والعطاء على هذا المستوى. ولا شك أن الريادة في هذا المجال سيعظها المسرح، خصوصا بمصر والشام والمغرب.
فأمام أزمة النصوص من جهة، وأزمة التواصل من جهة أخرى وأزمة البحث عن الخصوصية والتميز عن المسرح الأوروبي من جهة ثالثة... فسيهتم المسرحيون العرب، وانطلاقا من مبادرات توفيق الحكيم ويوسف ادريس وعلي الراعي ونعمان عاشور... على الأقل، ان لم نقل منذ البدايات الأولى للمسرح العربي على يد النقاش وقباني.. وصولا الى الطيب الصديقي وع. الكريم برشيد في المغرب اليوم. يمكننا بسهولة أن نلاحظ ذلك الوكد العنيد في البحث عن الاتصال بأدنى وأبسط جذور الظواهر المسرحية في التراث الشعبي العربي. من نصوص "ألف ليلة وليلة" وسير أبطال الأساطير الشعبية العربية (عنترة وسيف وذات الهمة....) والمقامات... الخ الى أشكال التعبير المسرحي العربية القديمة وابرزها خيال الظل وجلسات السمر وفن البساط والحلقة... ومختلف المظاهر الاحتفالية الشعبية سواء أعانت دينية لدى الطوائف أو اجتماعية فنية متصلة بمناسبات الأفراح أو الأحزان والمأتم... الخ.
وفي الدرجة الثانية (أو الثالثة باعتبار الموسيقى والغناء) تأتي الفنون التشكيلية العربية الحديثة والمعاصرة. فانطلاقا تقريبا من نفس الحساسيات والدوافع التي وقع التنويه بها سابقا بالنسبة للظاهرة المسرحية العربية. سيبدأ اهتمام الفنان التشكيلي العربي بخصوصيات الخط والتلوين والظل والأشكال... الشعبية العربية المبثوثة والموزعة على مختلف الأشياء المادية في المحيط الشعبي العربي من اللباس والحلي الى المعمار في المساجد والمساكن والى التأثيث المنزلي...الخ استرجعوها جميعا وحاولوا الاستمداد منها رؤية فنية تضفي خصوصية وتميزا على اللوحة العربية: حسن سليمان - محمد المليحي - محمد شبعة - فريد بلكاهية..
ولا يجوز في هذا الاطار أن يفوتنا التنبيه الى الدور المؤثر في هذا المنحى والذي قام به عموم الفنانين الطلائعيين الغربيين، وكذلك بعض الباحثين المستشرقين المختصين في الفنون التشكيلية.. على انتحاء الفنان التشكيلي العربي هذا المنحى.. لقد كان عموم الاتجاه التجريدي الغربي في فنون الشكل يعبر عن أزمة اللوحة وأزمة الرؤية لدى المجتمعات الأوروبية حول تشكيل العالم بصريا. الأمر الذي حدا بطلائعهم الى محاولة تجاوز الأزمة بالرجوع الى التراث الشعبي الآسيوي والافريقي بخاصة يستمدون منه ما به ينقذون فقر الموضوعات واختناق أشكال التعبير لديهم. وهو ما نبه من جهته التشكيلي العربي الى أنه الأولى باقتحام نفس السبيل واختراق نفس الحدود، وقد فعل. وهذا فضلا بالطبع عن الدور المركزي للمستهلك الأوروبي للوحة العربية. والذي وجه من جهته عناية الفنانين التشكيليين العرب الى تراثهم الشعبي، ما دام السوق يطلب ذلك ويلح عليه ويكاد يرفض غيره.
وتعتبر السينما العربية اليوم أكثر الفنون استفادة واعتمادا على مصادر التراث الشعبي العربي، ويصح أن نسجل أنها ومنذ بداياتها الأولى وعلى يد مؤسسيها الأوائل من الأجانب غالبا، اهتمت بمختلف مظاهر التعبيرات الثقافية الشعبية وذلك قبل أن يبرز في الميدان كتاب حوارات وسيناريو هات ومخرجون شغلهم هذا الهم وانكبوا على البحث والتنقيب والاجتهاد فيه أمثال نجيب سرور والأخوان رحباني وصلاح أبوسيف وشادي عبدالسلام... الخ أما المغرب خصوصا فيمكن الحكم بدون تردد أن الطابع العام للانتاج السينمائي الجاد استغرقه هذا المنحى، لدرجة أمسى معها فولكلوريا تماما وبالمعنى السلبي للمصطلح. نفس الأمر تقريبا بالنسبة للسينما التونسية كذلك.
أما القصيدة العربية الحديثة بالفصحى، فبرغم ثقل ذاكرتها من التراث الشعري العربي الضخم، فقد حاولت من جانبها، وذلك منذ برز أقطابها المؤسسون أمثال أحمد شوقي وعلي أحمد باكثير... الاستقاء من معين التراث الشعبي العربي لغة وموضوعات وأشكال تعبير تراوحت بين الاستعارة الجزئية لدى السياب ونجيب سرور وأمل دنقل... مثلا الى حالات التطرف التي نجدها في اشعار أمثال سعيد عقل في لبنان خصوصا. وفي المغرب كذلك يمكننا ملاحظة نفس المنحى في أكثر تجارب الشعراء الشباب وبالذات في بواكير انتاجهم كمحمد بنيس وأحمد بلبداوي وأحمد المسيح.
ولا تكاد تخلو بقية أشكال التعبير الفني الأخرى القولية والحركية مثل الرقص... من آثار الاستمداد والاستقاء سواء من ذلك فنون القصة والرواية عند أمثال يوسف ادريس ونجيب محفوظ والطيب صالح واميل حبيبي ومبارك ربيع.. أو في الخطابة والأدب الصحفي واللباس وفنون المعمار والتزيين (الديكور) والتأثيث.. الخ.. مما لا يسمح المجال بالوقوف عنده تفصيلا.