dimanche 3 février 2008

العرب المحدثون وتراثهم الثقافي الشعبي جزء 6- عبد الصمد بلكبير


الجزء السادس : ملاحظات واستنتاجات
7- يطغى على مجهودات الجمع والتنقيب والتأليف والترجمة... في ميدان التراث الشعبي العربي، طابع المجهودات والاجتهادات الفردية والمبادرات الشخصية والحال أن هذا الميدان، وربما أكثر من غيره يحتاج بطبيعته الى العمل الجماعي والمنظم من جهة وال مصادر تمويل وتأطير إداري لا تستطيعها غير المؤسسات العلمية المرتبطة بالدولة في الأمصار العربية من جهة أخرى. وهو الوضع الذي يكاد ينعدم في أكثرها. واذا هو توافر كما هو الحال في مصر وفلسطين والجزائر، فإن ذلك يتسم بالكثير من مظاهر الفقر في التمويل والضعف في التأطير ووسائل العمل التقنية المعاصرة. وذلك باستثناء حالة بعض دول الخليج.
وحيث إن الأمر كذلك على الصعيد العربي عموما، فسيترتب عليه حتما ما نلاحظه من قصور مخل على مستوى التنسيق والتعاون وتبادل الخبرات والخلاصات بين مختلف الباحثين العرب المختصين. فباستثناء ما يسمح به الصدور المنتظم أو المتعثر غالبا لبعض المجلات العربية المختصة في الموضوع، فإننا نادرا ما نسمع عن مؤتمرات عربية أو ندوات جهوية أو جمعيات ولجان ومراكز بحث على الصعيد العربي تهتم بشكل منظم ودوري بموضوع الثقافة الشعبية العربية.
8- تعتبر ظاهرة السياحة المعاصرة، والتي أضحت تمثل مجالا للاستثمار متزايد الأهمية. من أخطر وسائل التأثير الثقافي المعاصرة، وبالأخص على مستوى العلاقات بين الثقافة الغربية وثقافة، الشعوب الضعيفة والمستعمرة سابقا. وهو تأثير مزدوج القيمة والمرد ودية. فهي في الوقت الذي تنبه فيه تلك الشعوب ودولها ورأسمالييها بصورة خاصة الى الأهمية المالية أولا وقبل المعنوية لثقافاتها وعاداتها وخصائص شعوبها، بما يحرضها ويدفعها الى العناية بها والمحافظة عليها مادامت تعتبر عاملا أساسيا في استجلاب العملة الصعبة من حيث هي تستجلب السائح الغربي الباحث عن القراءة والخصوصية وما هو غريب عن عاداته وعجيب في منظوره... فانها أيضا وبصورة أخطر تلعب دورا سلبيا مشوها وهداما لتلك الثقافة بالذات، وذلك بسبب من تأثير العين والأذن الغربية على تكييف تلك الثقافة واعادة انتاجها بما يرضي رغبات السائح الغربي وتطلعه الى رؤية متحف بشري حي يرى من خلاله ماضي الشعوب ومظاهر تخلف وانحطاط ذلك الماضي، أي عمليا بما يرضي نزوعه العنصري وانانيته النرجسية واحساسه بالتفوق والعظمة الكاذبة والغرور الزائف وغير الموضوعي بحال.
عن طريق السائح،وبوساطة السياحة، يحتفظ اليوم العديد من الشعوب العربية خصوصا بالشام ومصر والمغرب وتونس على تراثها الشعبي وبالأخص منه التشكيلي والحركي والايقاعي. غير أن ذلك يحدث مع أداء ذعيرة قاسية ان لم نقل قاتلة أيضا. فمن حيث هم يعيدون انتاجه فإنهم لا يراعون سوى العلاقات الصورية بين الأصل والمستنسخ منه، أما الوظيفة الأصلية والواقعية فيقع إلغاؤها بشكل تام وبالتالي إعدام الطبيعة الجوهرية للمعطى الثقافي الشعبي. إن السقاء مثلا يستحيل محض زينة (ديكور) في صورة يلتقطها له السائح بجانب أطفاله. أما السجاد فلم يعد بالامكان التمييز بين أصيله وأثيله حقا وبين العديد من المزيفات المصطنعات ونفس الأمر بالنسبة لايقاعات وموسيقى بعض الطوائف الزنجية المغربية فالهجهوج مثلا أضحى يوظف لأداء نغمات يأخذ السائح طعام عشائه على سماعها... وشتان بين ذلك وبين وظيفته الأصلية... الخ. إنها عملية شاملة وممنهجة، ويكاد يشترك فيها الجميع، تستهدف بوعي أو بعفوية تشويه ذلك التراث، وتحريف وظائفه، وإعادة صياغته، لا بما يرضي حاجيات المواطنين في حاضرهم بقدر ما يقصد منه إرضاء حاجيات عطلة وراحة السائح الغربي وأحط نوزاعه الثقافية بل وغرائزه الحيوانية أحيانا كما يمكن ملاحظة ذلك بالنسبة للرقص عموما، وما يعرف بالرقص الشرقي خصوصا.
9- في مواجهة هذا النمط الجديد من الغزو الثقافي المنظم والشامل، والذي يستهدف، عن قصد أو عن غيره، نفس أهداف محو وتفكيك الخصوصيات الثقافة الوطنية والشعبية، وان بوسائل أخرى أكثر دهاء وفعالية... لا تقف الشعوب العربية مستسلمة ودون مقاومة بل هي على النقيض من ذلك تجتهد عفويا أو بوعي وقصدية عن طريق بعض مثقفيها أو دولها للمحافظة على تراثها والاعادة الدورية لانتاجه بما يسمح باستمراره حيا وظيفيا وخلاقا. إن الكثير من الفنانين التشكيليين والمهندسين المعماريين والموسيقيين والأدباء والباحثين من مختلف الأصناف من العرب المحدثين اليوم يعملون جاهدين على إنقاذ ذلك التراث بإدماج تقنيات الغرب المعاصرة بمضامينه وأشكاله الفنية الموروثة. ومن جهتهم فإن الأهالي أيضا، وسواء عن طريق الأسر الحديثة في المدينة، أو عائلات وعشائر البادية خصوصا، قد بدأوا يسترجعون ذاكرتهم الخاصة ويجددون المحافظة على موروث أجدادهم. وكما لاحظ ذلك مرة الكاتب الطاهر بن جلون في مقال أدبي استطلاعي عن جامعة الفنا باعتبارها أكبر ساحة عالمية لانتاج واعادة انتاج معطيات الثقافة الشعبية، فقد سجل انسحاب جمهورها الحقيقي منها وتركها ساحة مصطنعة لترضية السائح الأجنبي وجيوب المستثمر المغربي، وبحثوا لهم عن ساحة أخرى بـ "باب اغمات" وبسيدي يوسف بن علي ليمارسوا فيها بأصالة وحميمية وصدق... فرجاتهم وتعبيراتهم الثقافية الخاصة والمستجيبة لحاجياتهم الاجتماعية - الثقافية الحقيقية. ساحة تقوم بوظيفتها التاريخية الأصلية والاصيلة لتحقيق هدف الاندماج والتلاقح والتعبير الثقافي لمختلف فئات وطبقات الشعب: البادية والمدينة، الرجال والنساء، الشيوخ والأطفال، المثقفون والعوام.. ومختلف الشرائح المهنية والحرفية. جامعة شعبية تتكامل في التفاعل مع دور المسجد وعلاقات الجيرة في الحي السكني والأسرة لتأكيد ميثاق الوحدة وتأكيد الهوية وابراز الشخصية الحرة والمستقلة.
10 - إن الطابع الرئيسي للوضع التاريخي العربي الحديث والمعاصر، مازالت تحكمه تناقضات بناء الدولة الوطنية. أو القومية العصرية المستقلة الموحدة وذات السيادة على الحاضر والمصير. ولأن الأمر يحدث حتى الآن بقيادة طبقاتها الوسطى الحديثة النشأة والتجربة والمقتدية في ذلك بنماذج الماضي الغربي الحديث وخصوصا منه الأوروبي. فليس من المنتظر لذلك أن تنهض للاهتمام بهذا الحقل المليء من منظورها بالألف. والمحاذير، رغم اضطرارها اليه، ويا للمفارقة ! لبعض الحاجيات الطارئة والظرفية بالنسبة لبعضها، الدائمة لبعضها الآخر. إن بناء أو إعادة بناء الدولة، وما يقتضيه ذلك من شروط الوحدة المجتمعية والادماج الثقافي الشامل، في مواجهة أخطار التفتيت والتمزيق الموضوعية أو المصطنعة.. كل ذلك يفرض عليها أكثر من دواعي النقيض، الاهتمام أكثر بما يوحد ويدعم مقومات المشترك والعام بديلا وعلى حساب عناصر الاختلاف والخصوصيات الاثنية، الجهوية والقبلية.. أي عمليا نفس الحقل الذي يفتني بها وتغتني منه عناصر ومقومات ما يسمى بالثقافة الشعبية.
إن مقومات المشترك الثقافي العربي، هي اليوم وفي منظور وآفاق الطبقات السائدة العربية، هو بالأساس الذاكرة الاسلامية وركيزتها القرآن الكريم واللغة العربية الفصحى، التي تحفظه ويحفظها من أخطار الاجتثاث والضياع. وقد تجاوز اليوم هذا الهم، انشغالات الدول والحكومات العربية، ليصبح مجددا انشغالا شعبيا عاما وعارما ومن ثم نلاحظ هذا الانبعاث للحذر والحيطة تجاه كل ما هو ثقافي شعبي قد يفسد العقيدة أو يفسد الشريعة أو يفسد اللغة، يطو أحيانا ليبلغ درجة الحرب العلنية أو الضمنية، لكل ما قد يتوهم إمكان تسرب أي تهديد منه للكيان الوطني الهش أصلا والضعيف التماسك. بالتالي لكل قول أو فعل ثقافي شعبي يمكن أن يستعمل ذريعة أو قناة لتوليد وتمرير دعوات سياسية انعزالية أو انشقاقية.
11- وعلى مستوى المثقفين والباحثين المختصين نستطيع أن نلاحظ أيضا نفس التخوف والحذر هاديين في ترددهم عن اقتحام بعض مجالات البحث في حقل الثقافة الشعبية والتني تعتبر ملغومة عقائديا أو سياسيا. كما أنهم في أبحاثهم نفسها يشتغلون غالبا تحت ضغط هاجس الخوف من الاتهام بالسقوط في اهداف ومقاصد المدرسة الاستشراقية. مؤكدين غالبا على ما يشكل في منظورهم عناصر الوحدة والاتصال في الموروث الثقافي الشعبي العربي. وعندما لا يحضر هذا الهاجس، يفضل الباحث العربي غالبا الكتابة بلغة أجنبية كما كان يحدث بالنسبة للعديد من الباحثين الفلسطينيين وما نلاحظه اليوم لدى بعض باحثي المغرب والجزائر.
تلك هي بالاجمال أهم ما يتناسب استخلاصه من العرض العام حول علاقة العرب المحدثين بذا كرتهم الثقافية الشعبية. لم نستهدف منه الاحاطة والشمول ولا التدقيق وما يقتضيه من توثيق واستشهاد، وذلك بسبب من وظيفته التمهيدية في هذا البحث المتصل،موضوع محدد من موضوعات ما اصطلح على تسميته بـ "الثقافة الشعبية".