vendredi 13 juin 2008

الشعر الشعبي " الملحون" في المغرب العربي الجزء 3 : تعريفه ,أغراضه , أنواعه .


الجزء 3

من أغراض الشعر الشعبي الملحون : فن المديح أو شعر المدح

إن فن المديح قد اكتسح ثلثي المساحة في خريطة الشعر العربي عبر عصوره المتلاحقة. بل هو فن قديم حظي من أرسطو بمقولات استمدت قوتها من نظريته في المحاكاة، حيث ذكر (أن الشعر انقسم وفقا لطباع الشعراءـ فذووا النفوس النبيلة حاكوا الفعال النبيلة وأعمال الفضلاء. وذووا النفوس الخسيسة حاكوا الفعال الأدنياء، فأنشأوا الأهاجي، بينما أنشأ الآخرون الأناشيد والمدائح
يمكن تقسيم شعر المديح الى النبويات ( في مدح النبي ) والغزليات ( في مدح الحبيبة ) والبعض منه وهو ليس من النوع الشائع في مدح السلطان وهو ما يمكن ان نسميه على سبيل المجاز السلطانيات .

الجزء الاول : النبويات
في الحقيقة إن المدائح النبوية استقلت بذاتها كفن خارج عن الأغراض التي حصرتها مصادر النقد العربي، وإن كانت له جذور وبذور في شعر حسان بن ثابت الأنصاري. لكن هذه البذور والشذرات، لا يمكن مقارنتها بما في النبويات اللاحقة، لاختلاف الظرف التاريخي الذي أنشأ هذا الاتجاه الأدبي
. كما أن العصر الثقافي الذي فجر أنهار "البردة" ورصع البديعيات، وأفرد الوتريات، هو غير العصر الثقافي الذي انتظم العهد النبوي، ومتغيراته الإسلامية، وانطلاقا من هذا التفرد، في المدائح والنبويات، فإن بعض الدارسين المنصفين، يعتقدون بأنها (أحق أن تصنف في شعر الملاحم من المعلقات والقصص المذكورة، لأنها أطول نفسا وأكثر حوادث، وأغنى بصور البطولة والكفاح من أجل إثبات الوجود العربي وإعلان رسالة الإسلام المقدسة ...)

النموذج المنشود في المدائح النبوية هو الرسول (ص) أو الحقيقة المحمدية بكل تصوراتها الدينية والصوفية. وزمن الرسول – عليه السلام – هو من الماضي الذهبي للإسلام والمسلمين

وإذا كان البوصيري من رواد هذا الفن الإسلامي، فإن العناصر التي بنى عليها صناعة "بردته" قد أصبحت المثال الذي احتذاه شعراء النبويات أو الحجازيات، مع الاختلاف الجزئي في الترتيب والتقسيم. وبالرجوع إلى عناصر البردة وأقسامها فإن المعاني فيها نجدها لا تخرج عن (النسيب ويليه التحذير من هوى النفس، ثم مدح النبي، والكلام عن مولده ومعجزاته، ثم القرآن والإسراء والمعراج والجهاد، ثم التوسل والمناجاة

إن المدائح النبوية، في الأدب العربي، قد اتخذت، من حيث عدد أبيتها، نماذج متفاوتة، وبردة البوصيري تتألف من 182 بيتا (أي أنها من القصائد الطوال) ، ومعنى هذا، أن هيكل المدحة النبوية إنما يقوم على البناء المرسوم والخاضع لإيقاع الوحدات المعقودة في "بردة البوصيري". وهكذا يتصدر النسيب المنزلة الأولى في هذا البناء

إن الغزل الذي يصدر به المديح النبوي يتعين على الناظم أن يحتشم فيه ويتأدب، ويتضاءل، ويتشبب مطربا بذكر سلع، ورامة وسفح العقيق، والعذيب، والغوير، ولعلع، وأكناف حاجر، ويطرح ذكر محاسن المرد والتغزل في ثقل الرديف، ورقة الخصر، وبياض الساق، وحمرة الخد، وخضرة العذار، وما أشبه ذلك، وقل من يسلك هذا الطريق من أهل الأدب

وحالما يغترف فن المديح النبوي من بحر القوم، فإن الحديث الغزلي يترقرق بمائية الروح، على عكس ما نجده في "البديعايت" التي تسوى على أوتار التزويق البلاغي، على حساب التجربة الشعورية الغائبة في تلك المدائح
.
وهناك أمثلة، في هذا المضمار، استطاعت أن تحقق التوحد بين التجربة الصوفية والمذهب البلاغي (وقصيدة عائشة الباعونية نفحات من التصوف، وليس ما فيها من أوصاف حسية وحديث عن الحب واللوعة والشوق مما يعرفه الشعراء الحسيون، وإنما هو الشوق إلى الله والهيام بحب نبيه المصطفى عليه السلام
. وهي في ذلك تنحو منحى الشعراء المتصوفين، كابن الفارض والبوصيري وغيرهما من أعلام العشق الإلهي ...) ، ومن قصيدتها هاته الأبيات :

بلغت في العشق مرمى ليس يدركه...... إلا خليع صبا مثلــي إلى العدم
كتمت حالي ويأبى كتمه شجنــي...... بحكمي الفاضحين : الدمع والسقم
قــالوا ارعوي، قلت : قلبـــي لا...... قالوا : انثني، قلت عهدي غير
يطـــــــاوعنـــــــي...... منفــــصــــــــم
قالوا : سلوت فقلت الصبر في كلفي...... قالوا يئست، فقلت البرء في سقمي

فالغايات والمقاصد، في الأمداح النبوية، - بداء وانتهاء – تختلف باختلاف المنازع والمشارب ولكنها ترقى بالرقي الصوفي الذي يخترق حجب الغائية الآنية( ) ومن هذا التباين تميزت الأمداح الصوفية عن غيرها، حتى ولو كان الممدوح هو محمد – عليه الصلاة والسلام – في الحالتين
.
وإذا كان المدار في الأدب الصوفي لا يخرج عن فلك "الحب" بمسمياته وألوانه، فإن الصوفية قد فاضت من أرواحهم معاني الحبين : الحب الإلهي والحب النبوي. ومن هذا التوحد نستطيع إمساك الخيط الروحي الذي يصل نبضات النسيب في المطالع والابتداءات بباقي مضمون القصيدة الكاملة. ولم يبق بعد هذا التوحد إلا أن نستبدل لفظ "المدائح النبوية" بكلمة "الحب النبوي"، حيث أن القصيدة المادحة، كما نسميها – في فن المدائح النبوية – إنما هي مناجاة للذات المحمدية، وبالتصورات التي ينطلق منها المادح في التغني بالإنسان الكامل وخصائصه النبوية




كان الحلاج واحدا من فرسان القوم الذين تشعشعوا بأنوار الحقيقة المحمدية، حيث أضاء لها "طاسين السراج" في كتابه الطواسين. والصورة البيانية لتصورات الحلاج هي في غاية الجمال الفني، ولو أنها انتظمت بخواتم القوافي لكانت قصيدة رائعة ضمن ديوان الحب النبوي.
والحلاج بهذا الطاسين، كان رائدا لمن جاء بعده، وما في الفتوحات، لابن عربي، سوى قبسات إضافية تناولها الشيخ الأكبر بما عرف به قدرة على الغوص والتحليل. أما الحلاج فحسبه أنه أضاء السراج في قبة الوجود :
(قال رضي الله عنه، طس، سراح من نور الغيب، وبدا وعاد، وجاوز السراج وساد، قمر تجلى من بين الأقمار، برجه في فلك الأسرار، سماه الحق "أميا" لجمع همته، و"حرميا" لعظم نعمته، و"مكيا" لتمكينه عند قربه ... أنوار النبوة من نوره برزت. وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر، وأقدم من القدم، سوى نور صاحب الكرم ... همته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، لأنه كان قبل الأمم ... فوقه غمامة برقت، وتحته برقة لمعت، وأشرقت، وأمطرت، وأثمت، العلوم كلها قطرة من بحره، الحكم كلها غرفة من نهره، الأزمان كلها ساعة من دهره ...
الحق به، وبه الحقيقة، هو الأول في الوصلة، هو الآخر في النبوة، والباطن بالحقيق، والظاهر بالمعرفة ...
ما خرج عن ميم محمد، وما دخل في حائه أحد، حاؤه ميم ثانية، والدال ميم أوله، داله دوامه، ميمه محله، حاؤه حاله، حاله ميم ثانية ...
أظهر مقاله، أبرز أعلامه، أشاع برهانه، أنزل فرقانه، أطلق لسانه، أشرق جنانه، أعجز أقرانه، أثبت بنيانه، رفع شأنه ...
إن هربت من ميادينه، فأين السبيل، فلا دليل، يا أيها العليل، وحكم العلماء عند حكمته ككثيب مهيل).
ويقول صاحب الفتوحات :
(اعلم أيدك الله، أنه لما خلق الله الأرواح، المحصورة المدبرة، للأجسام، بالزمان عند وجود حركة الفلك، لتعيين المدة المعلومة عند الله. وكان عند أول خلق الزمان بحركته، خلق الروح المدبرة روح محمد (ص)، ثم صدرت الأرواح عند الحركات، فكان لها (أي روح محمد) وجود في عالم الغيب، دون عالم الشهادة، وأعلمه الله بنبوته وبشره بها، وآدم لم يكن إلا كما قال "بين الماء والطين"، وانتهى الزمان بالاسم الباطن في حق محمد (ص) إلى وجود جسمه وارتباط الروح به ... فعند ذلك انتقل حكم الزمان في جريانه إلى الظاهر، فظهر محمد (ص)، بذاته جسما وروحا، فكان الحكم له، باطنا إلا في جميع ما ظهر من الشرائع على أيدي الأنبياء والرسل – سلام الله عليهم أجمعين – ثم صار الحكم له ظاهرا : فنسخ كل شرع أبرزه الاسم الباطن، بحكم الاسم الظاهر، لبيان اختلاف حكم الاسمين، وإن كان المشرع واحدا، وهو صاحب الشرع
وابن عربي قد أفاض القول في هذا، في الفتوحات، وفي الفصوص، فأفرد في الكتاب الأخير "فص حكمة فردية في كلمة محمدية" وقد أداره حول الأطروحة الفلسفية الصوفية التي درج عليها في كتاباته الغزيرة.
وصفوة الكلام، هو أن "الحقيقة المحمدية" كتصور سابق على الأمداح النبوية، إنما ترعرعت وأثمرت أغصانها في الأدب الصوفي، بما لها من جذور عنوصية وشيعية في آن واحد

وقد امتدت ظلال هذه التصورات الغنوصية والشيعية على جل القصائد التي قيلت في هذا الفن المديحي، منذ أن طرزه البوصيري ببردته وهمزيته الشهيرتين

أمِنْ تَــذَكِّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَمِ*مَزَجْتَ دَمعــا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ
أَم هَبَّتِ الريحُ مِن تلقــاءِ كــاظِمَةٍ*وأومَضَ البرقُ في الظَّلمـاءِ مِن اِضَمِ
ِ
فـما لِعَينـيك اِن قُلتَ اكْفُفَـا هَمَـتَا *وما لقلبِكَ اِن قلتَ اسـتَفِقْ يَهِــم
ِ
أيحَســب الصَبُّ أنَّ الحبَّ مُنكَتِــم*ما بينَ منسَــجِمٍ منه ومُضْـطَـرِمٌ
ِلولا الهوى لم تُرِقْ دمعـــا على طَلِلِ
*ولا أَرِقْتَ لِــذِكْرِ البـانِ والعَلَـمِ
فكيفَ تُنْكِـرُ حبا بعدمـا شَــهِدَت
*به عليـك عُدولُ الدمـعِ والسَّـقَمِ
وأثبَتَ الـوَجْدُ خَـطَّي عَبْرَةٍ وضَـنَي ِ
*مثلَ البَهَـارِ على خَدَّيـك والعَنَـمِ
نَعَم سـرى طيفُ مَن أهـوى فـأَرَّقَنِي
*والحُبُّ يعتَـرِضُ اللـذاتِ بالأَلَـمِ
يــا لائِمي في الهوى العُذْرِيِّ مَعـذرَةً
*مِنِّي اليـك ولَو أنْصَفْـتَ لَم تَلُـمِ
عَدَتْـــكَ حالي لا سِـرِّي بمُسْـتَتِرٍ
*عن الوُشــاةِ ولا دائي بمُنحَسِــمِ
مَحَّضْتَنِي النُّصْحَ لكِنْ لَســتُ أسمَعُهُ ِ
*اِنَّ المُحِبَّ عَنِ العُــذَّالِ في صَمَـمُِ
الخ ...

يمكن الاستماع في هذا الغرض الى الشيخ الحسين التولالي في قصيد التوسلات على الرابط التالي

الحسين التولالي : قصيدة التوسلات