كان الحلاج واحدا من فرسان القوم الذين تشعشعوا بأنوار الحقيقة المحمدية، حيث أضاء لها "طاسين السراج" في كتابه الطواسين. والصورة البيانية لتصورات الحلاج هي في غاية الجمال الفني، ولو أنها انتظمت بخواتم القوافي لكانت قصيدة رائعة ضمن ديوان الحب النبوي. والحلاج بهذا الطاسين، كان رائدا لمن جاء بعده، وما في الفتوحات، لابن عربي، سوى قبسات إضافية تناولها الشيخ الأكبر بما عرف به قدرة على الغوص والتحليل. أما الحلاج فحسبه أنه أضاء السراج في قبة الوجود : (قال رضي الله عنه، طس، سراح من نور الغيب، وبدا وعاد، وجاوز السراج وساد، قمر تجلى من بين الأقمار، برجه في فلك الأسرار، سماه الحق "أميا" لجمع همته، و"حرميا" لعظم نعمته، و"مكيا" لتمكينه عند قربه ... أنوار النبوة من نوره برزت. وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر، وأقدم من القدم، سوى نور صاحب الكرم ... همته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، لأنه كان قبل الأمم ... فوقه غمامة برقت، وتحته برقة لمعت، وأشرقت، وأمطرت، وأثمت، العلوم كلها قطرة من بحره، الحكم كلها غرفة من نهره، الأزمان كلها ساعة من دهره ... الحق به، وبه الحقيقة، هو الأول في الوصلة، هو الآخر في النبوة، والباطن بالحقيق، والظاهر بالمعرفة ... ما خرج عن ميم محمد، وما دخل في حائه أحد، حاؤه ميم ثانية، والدال ميم أوله، داله دوامه، ميمه محله، حاؤه حاله، حاله ميم ثانية ... أظهر مقاله، أبرز أعلامه، أشاع برهانه، أنزل فرقانه، أطلق لسانه، أشرق جنانه، أعجز أقرانه، أثبت بنيانه، رفع شأنه ... إن هربت من ميادينه، فأين السبيل، فلا دليل، يا أيها العليل، وحكم العلماء عند حكمته ككثيب مهيل). ويقول صاحب الفتوحات : (اعلم أيدك الله، أنه لما خلق الله الأرواح، المحصورة المدبرة، للأجسام، بالزمان عند وجود حركة الفلك، لتعيين المدة المعلومة عند الله. وكان عند أول خلق الزمان بحركته، خلق الروح المدبرة روح محمد (ص)، ثم صدرت الأرواح عند الحركات، فكان لها (أي روح محمد) وجود في عالم الغيب، دون عالم الشهادة، وأعلمه الله بنبوته وبشره بها، وآدم لم يكن إلا كما قال "بين الماء والطين"، وانتهى الزمان بالاسم الباطن في حق محمد (ص) إلى وجود جسمه وارتباط الروح به ... فعند ذلك انتقل حكم الزمان في جريانه إلى الظاهر، فظهر محمد (ص)، بذاته جسما وروحا، فكان الحكم له، باطنا إلا في جميع ما ظهر من الشرائع على أيدي الأنبياء والرسل – سلام الله عليهم أجمعين – ثم صار الحكم له ظاهرا : فنسخ كل شرع أبرزه الاسم الباطن، بحكم الاسم الظاهر، لبيان اختلاف حكم الاسمين، وإن كان المشرع واحدا، وهو صاحب الشرع وابن عربي قد أفاض القول في هذا، في الفتوحات، وفي الفصوص، فأفرد في الكتاب الأخير "فص حكمة فردية في كلمة محمدية" وقد أداره حول الأطروحة الفلسفية الصوفية التي درج عليها في كتاباته الغزيرة. وصفوة الكلام، هو أن "الحقيقة المحمدية" كتصور سابق على الأمداح النبوية، إنما ترعرعت وأثمرت أغصانها في الأدب الصوفي، بما لها من جذور عنوصية وشيعية في آن واحد
وقد امتدت ظلال هذه التصورات الغنوصية والشيعية على جل القصائد التي قيلت في هذا الفن المديحي، منذ أن طرزه البوصيري ببردته وهمزيته الشهيرتين
أمِنْ تَــذَكِّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَمِ*مَزَجْتَ دَمعــا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ أَم هَبَّتِ الريحُ مِن تلقــاءِ كــاظِمَةٍ*وأومَضَ البرقُ في الظَّلمـاءِ مِن اِضَمِ ِ فـما لِعَينـيك اِن قُلتَ اكْفُفَـا هَمَـتَا *وما لقلبِكَ اِن قلتَ اسـتَفِقْ يَهِــم ِ أيحَســب الصَبُّ أنَّ الحبَّ مُنكَتِــم*ما بينَ منسَــجِمٍ منه ومُضْـطَـرِمٌ ِلولا الهوى لم تُرِقْ دمعـــا على طَلِلِ *ولا أَرِقْتَ لِــذِكْرِ البـانِ والعَلَـمِ فكيفَ تُنْكِـرُ حبا بعدمـا شَــهِدَت *به عليـك عُدولُ الدمـعِ والسَّـقَمِ وأثبَتَ الـوَجْدُ خَـطَّي عَبْرَةٍ وضَـنَي ِ *مثلَ البَهَـارِ على خَدَّيـك والعَنَـمِ نَعَم سـرى طيفُ مَن أهـوى فـأَرَّقَنِي *والحُبُّ يعتَـرِضُ اللـذاتِ بالأَلَـمِ يــا لائِمي في الهوى العُذْرِيِّ مَعـذرَةً *مِنِّي اليـك ولَو أنْصَفْـتَ لَم تَلُـمِ عَدَتْـــكَ حالي لا سِـرِّي بمُسْـتَتِرٍ *عن الوُشــاةِ ولا دائي بمُنحَسِــمِ مَحَّضْتَنِي النُّصْحَ لكِنْ لَســتُ أسمَعُهُ ِ *اِنَّ المُحِبَّ عَنِ العُــذَّالِ في صَمَـمُِ الخ ...
يمكن الاستماع في هذا الغرض الى الشيخ الحسين التولالي في قصيد التوسلات على الرابط التالي
|