samedi 26 septembre 2009

تراث جربي رائع: الحبيب الجبالي


بشير عبد العظيم : يا بشاير هللي- اجمل قصيدة عن العروبة


البشير عبد العظيم-روح رحل حبيبي


محمد بلطيف الملوح - قلبي مفتون


بشير عبد العظيم : يا طبي


ضحضاح محمد بن ضو


ضحضاح الحاج سالم


ضحضاح رضا عبد اللطيف


رضا عبد اللطيف: ستين تكركر في مية


توفيق الصغير : مراسلات الشعراء



vendredi 25 septembre 2009

mardi 8 septembre 2009

الشاعر محمد الخامس بلطيف - نحلم نلعبو نجري وراك

كنت طلبت من الصديق الشاعر محمد الخامس بلطيف قصيدته الرائعة نحلم نلعبو نجري وراك والتي كان قالها بصدد تذكر طفولته مع شقيقه الشاعر والصديق شهاب خاصة بعد ان قال فيها ايوب لسود ومنير بن نصر معارضة - انظر هنا- وهي من اجمل القصائد الغنائية .واهديها بدوري الى صديقي واخي الشريف وايوب ومنير ....حتى لا يذوي الحلم او حتى لا يصبح المنام صحراء قفر بلا حياة...

(إلى روح ابراهيم بن عمر )
نَحْلَـمْ نَلِعبُـو ونِجْـري وراكْ ..... تِثْبِـتْ حِلِمتِـي ويُصْـدُقْ غَـلاكْ
* * *
نَحْلـمْ نلعبُـو والصًّبُـحْ دافِـــي ..... وعِطـر الـوَرِدْ مِتفـاوِحْ وصـافِي
إنـتَ الـوِلِفْ يا أجمـلْ أولافِي..... واللّــهْ مُنِيتِـي نُقْعُـــــدْ حْـــذاكْ
نَحْلَـمْ نَلِعبُـو ونِجْـري وراكْ

* * *
نَحلـمْ نلعبُـو بيـن العـروقْ .....تَـزْهَـى الـرُّوحْ والخـاطِـرْ يـروقْ
كـانْ بْطَلْتـكْ يَبْـردْ الشّـوقْ..... يِكِـفْ الـدّمِـعْ وانْغَنّــي مْعـــاكْ

نَحْلَـمْ نَلِعبُـو ونِجْـري وراكْ

* * *
نحلـمْ نلعبُـو تحـت النّخَـلْ.....ل مـن حُـزُنْ لا قلب اِنشغــلْ
راوِي بِسِـرْها بـارِدْ الظّـلْ.....تَغْفَـى حِينْهـا وتَهْـدَا خْطـاكْ
نَحْلَـمْ نَلِعبُـو ونِجْـري وراكْ
* * *

نَحـلــمْ نلعبُــــــــو لْحَـدْ الظّـلامْ ..... لِيـنْ يعــودْ لَـوْكـارَهْ الحَمــــــامْ
وكيـفْ اِتْهِـبْ م البَحْرِي أنسـامْ .... يِبكِـي القلِـبْ مِنْ خـانْ ونِســـــاكْ

نَحْلَـمْ نَلِعبُـو ونِجْـري وراكْ
* * *
نحلـمْ نَسمعُـو أمَّـكْ تنـادِي.....جْـرِيتْ لحُضنهـا ونْسيـتْ غـادِي
ونَـا لِلْيـومْ غالِبْني عْنـادِي.....قـاعـدْ ثـمْ تَتَـرْجَعْ انْــرَاكْ
نَحْلَـمْ نَلِعبُـو ونِجْـري وراكْ
* * *
تِتْحَقّــق لَحْــلامْ.....وإنـتَ تـرْجعْلِــي
يـا سيـدِي مُضَـامْ....لازِمَ تَفْـزَعْلِــي
نَحلــمْ
م.الخـامس بن لطيّف

vendredi 4 septembre 2009

الخلالة او اغاني المنسج


كانت امهاتنا من وراء المنسج يناجين الخلالة على ايقاع صوتها يا خلالة رني و يا عيني نوحي ..ويرحن يحدثنها عن ما يختلج في نفوسهن من بعد وهجر وحنين للولدان ..الخ



في متابعة لاغاني الخلالة او المنسج وجدت هذه الاغنية للشاب صاليح ويبدو انه تهذيب موسيقي لما سمعناه سابقا او بالاحرى ادخال الات غربية على فن بدوي ؟؟؟


mardi 1 septembre 2009

الانتقالُ بالتُّراث : مِن النصِّ إلى الخِطاب



تَمْهِيــدٌ

فى ديوانه الشعرى سرحان يشرب القهوة كتب محمود درويش قبل عشرين سنة ، سطراً شعرياً لافتاً فى سياق القصيدة / الديوان ، التى انفعل خلالها بما جرى مع سرحان بشارة ذلك الفلسطينى الذى اتُّهِمَ زوراً بقتل الرئيس الأمريكى جون كيندى .. قال محمود درويش - متهكِّماً - لسرحان بشارة (الذى صار فى القصيدة مثلاً وأنموذج للإنسان العربى ) :

أبوكَ احتمى بالنُّصُوص

فدخَل اللُّصُوص

بعدها بسنوات ، كتب الشاعرُ نفسه ، قصيدته الملحمية التى جعلها بعنوان مديح الظِّلِّ العالى فوصفنا جميعاً بأننا :

قصبٌ هياكِلُنا

وعروشُنا قصبُ

فى كلِّ مئذنةٍ حاوٍ ومُغتصَبُ

يدعو لأندلسٍ .. إن حُوصِرتْ حلبُ

وما بين القولين ، فيما أرى ، صلةٌ وثيقة وعلاقةٌ سببية ! فالثقافة التى ظلت ردحاً من الزمن تحتمى بالنصوص وتتزيّا بها ، صارت خليقةً بأن تتعرّى أمام اللصوص الطامعين ، وأن تبقى من بعد عُريها مُصاصةَ قصبٍ لاهَمَّ لها إلا إدارة معركة النصوص أو بالأحرى : الدخول فى مُعتَرك النصوص القديمة ، والعيش فى زمان استلاب الأندلس .. غافلةً عما يُستلب اليوم من أراضيها ! وبدلاً من جعل النَّصِّ القديم محرِّكاً للفعل المعاصر ، صار الفعل المعاصر دائراً فى حركة النص القديم .. وأُهدرت اللحظة المعاصرة .

وما من شكٍّ فى أننا أمةٌ تراثيةٌ الروح ، فقد امتد من ورائنا تراثٌ طويل ظَل قروناً طويلة يمتدُ فى الزمان ، ولم يزل ممتداً فينا .. فنحن ، كما قال الإمام الشافعى : أمةُ السَّنَدِ ! غير أن السَّنَدَ غير الاستناد .. وإسنادُ القول وإرجاعه لأصله ومصدره ، إنما يكون من باب التحرِّى والتوثيق ؛ ولايجوز من بعد ذلك الاستناد كليةً إليه، والعيش بالكلية فيه .. وإلا ، فما الذى يمكن أن يفعله النصُّ التراثى ؟ إنه لايفعل بخاصِّيةٍ سِحريَّةٍ فيه ، وإنما يفعل بوعى قائله ، وبإدراك هذا القائل لما حوله .. وبجعله النصَّ ذخيرةً فيه ، لاكهفاً له .

كُهوفُ النُّصُوصِ

فى إحدى محاورات أفلاطون ، أراد هذا الفيلسوف أن يضرب مثلاً للفارق ما بين الأوهام و المعرفة الصحيحة ؛ فقال ما ملخصه : إن جماعةً عاشوا حياتهم داخل كهف ، مقيَّدين بسلاسل ، بحيث تظل وجوههم دوماً متوجِّهةً إلى الحائط الداخلى للكهف ، وكانت ورائهم نارٌ تتراقص أَلْسنةُ لهبها ، فيرى أهل الكهف خيالاتهم على الحائط .. ولأنهم لم يروا غيرها ، ظنوا أنها الحقيقة ! لكنهم يوم يتحرَّرون من السلاسل ، سيدركون أنها أشباحٌ مخايلة ، وأنَّه لا دوام لها .. ويوم يخرجون من الكهف ، ستتألَّم عيونهم قليلاً من شدة ضوء الشمس، ثم يتعوَّدون على رؤية الأشياء الحقيقية .

وكان خروج رفاعة الطهطاوى إلى باريس فى الربع الأول من القرن التاسع عشر ، بمثابة خروجٍ من كهفه التراثى الفردى ، وكهف الجماعة وموروثها .. وبعد سنوات خمس قضاها بأوروبا ومن عام 1921 إلى عام 1931) عاد الطهطاوىُّ صحيحَ النظر ، إذ رأى بمخزونه التراثى هذا (الآخر) الغربى ؛ ورأى بالضوء الأوروبى تلك (الذات) التى انتمى - وننتمى نحن اليوم- إليها. فكانت لحظةٌ مجيدة فى ثقافتنا ، أدَّت إلى فعلٍ عظيم وتطويرٍ كبير قام به رفاعة الطهطاوى وتلامذته وتابعوه ، خلال عقود الاستنارة التى امتدّت بقية القرن التاسع عشر .

وكان من أفعال الاستنارة أمران ، متكاملان ؛ بدأهما رفاعة واستكملهما متابعوه : إحياءُ التراث، الترجمةُ .. وتجلَّت عملية الإحياء التراثى بأنصع ما يكون، فى مطبعة (بولاق ) الرائدة التى أخرجت أمهات كتب التراث ، كما تجلَّت أيضاً فى ذلك النشاط الكبير الذى شهدته عملية (نسخ) الكتب التراثية نسخاً يدوياً ، حتى أن ما نُسخ بمصر فى القرن التاسع عشر من مخطوطات ، يكاد يماثل ما تمَّ نسخه فى خمسة قرون سابقة .

وفى المقابل من عملية إحياء التراث والاهتمام بالنص التراثى ، كانت العملية التكاملية الأخرى : الترجمة .. بمثابة نافذة معرفية مقابلة للنافذة التراثية، بحيث يُحقَّق فتحُ هاتين النافذتين المتقابلتين ، تياراً معرفياً يجدِّدُ هواءً كان قد ركد زمناً طويلاً . وهو ما بشَّرت به العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر ، حيث شهد واقعنا الثقافى والاجتماعى نهضةً تبشِّر بخروج المجتمع من كهفه .. ولكن : سرعان ما انتكس الأمرُ وتبدَّدت التباشير !

ومع مطلع القرن العشرين ، كان وجدان الأُمَّةِ وعقلها قد انفصما إلى تيارين : تيارٍ يعود بالعقل الجمعى إلى حالة الاعتقال التراثى ، والتوغُّل فى كهوف النصوص ؛ أعنى التيار السَّلَفى المتشدِّد .. وتيارٍ يلقى بالذات من نافذة الحداثة ويخبط فى متاهاتها خبطَ عشواءٍ ، من غير تدبُّرٍ ولا انتباهٍ إلى طبيعة التكوين الحقيقى لثقافتنا ، وهو التكوين الممتد فينا عبر الدين وعبر اللغة وما تحمله من رؤية للعالم ؛ وذلك هو التيار العلمانى (المتشدِّد أيضاً !)

ولما احتدم الخلافُ بين التيارين ، أُغلقت النافذتان وعاد الهواء للركود .. وشيئاً فشيئاً ، دخل عقُلنا فى حالة فصامٍ معرفى ؛ فجماعةٌ ساروا إلى سرداب التراث القديم .. واعتقلوا أنفسهم فيه . والجماعةُ الأخرى تشتَّت خطاها فى متاهة الحداثة الأوروبية .. ثم أغرقهم طوفان ما بعد الحداثة !

ولن نخوض هنا فى الكلام عن الجماعة التائهةِ فى الحداثة ، الغارقةِ فيما بعدها -وهو أمرٌ تفصيله يطول - إذ أن ما يعنينا الآن هو الجماعة المعتقلة فى السراديب التراثية ، وهى التى يتنوَّع اعتقالُها فى صورٍ شتى ، ويتزايد .. على النحو التالى:

أولاً : تبدأ حالة الاعتقال فى الكهف التراثى ، من أغلوطةِ تموضعٍ زائف ؛ إذ يرى الوعىُ غير المكتمل بالتراث ، فى العصورِ السابقةِ حالةً من الصفاء الكامل ، وصورةً من المجد الحضارى الذى لن يتكرَّر فى ضوء معطيات الحاضر .. وهنا يكون الحنين للقديم أمراً طبيعياً .

ثانياً : يؤدِّى تبصُّر الواقع الحالى ، إلى إدراك قتامته وإحباطاته التى لاحَدَّ لها -على كافة المستويات ! - فتصتدم الصورتان .. الصورةُ التى خلَّفها الذهنُ من أمثلةٍ منتقاة ، لتأكيد روعة الماضى المتجلِّية فى مواقف ومناسبات تمت صياغتها بدقةٍ عالية فى (نصوص) تراثية ؛ والصورةُ القاتمة التى يعطيها الواقـع بقتامته وإحباطاته . وبالطبع ، وبشكل سيكولوجــــى ، سيكــون

الإنجذاب للصورة القديمة (المريحة) فى مقابل النفور من الحاضر المعيـش .

ثالثاً : يتم تأويل النصِّ التراثى ، بحيث تُعطى الأولوية للماضى ، وبحيث يغيب الحاضر .. كما يتم حذف كل مكدِّرٍ للذهن من التراث ، بحيث تظل الصورةُ شديدةَ الإشراق فى الذهن . وينتهى الأمرُ إلى إقرار مبدأ خطير للخروج من أزمة التناقض الداخلى الناتج عن الجمع التخييلى بين الماضى بصورته المنتقاة المتأوَّلة ، والحاضر بصورته القاتمة المحبطة .. هذا المبدأ هو الرجوع بالحاضر إلى الماضى ! وهو ما تمت صياغته فى شعارات طنَّانة من نوع : الإسلام هو الحل .. الأصالة فى مقابل المعاصرة .. الحفاظ على الهوية الحضارية .. العودة إلى الينابيع الأولى .. إلخ .

رابعاً : تُهيمن الصورةُ الفضفاضة للشعارات ، على أنماط الفكر والمنهج والسلوك، فتتأكَّد من كثرة تكرارها، وتكتسب يقيناً مستعاراً من كثرة استعمالها .. فتصير بمثابة بديهيات لاتجوز مناقشاتها ! فكيف يجرؤ إنسان، اليوم ، على مناقشة أن (الإسلام هو الحل) أو أن (الأصالة فى مقابل المعاصرة ) أو أنه لابد من (الحفاظ على الهوية الحضارية) أو ضرورة (العودة إلى الينابيع الأولى) .. بل يصير الشروع فى مناقشة الشعار ، مجرد الشروع ، أمراً مثيراً للشَّكِّ والريبة .

أخيراً : تعتاد العيون على الإظلام والعتمة الناتجة عن عدم مناقشة (الأصول الثابتة) التى انتهى إليها تفكيرُ المعتقلين فى كهف التراث ، أعنى هؤلاء المقيَّدين بالسلاسل ووجوههم إلى داخل الكهف .. ومن خلفهم نارٌ تتراقص ألسنتها ، فتنعكس خيالاتهم على الجدار الداخلى للكهف (كما فى مثال أفلاطون) والنارُ فى حالتنا هذه ، هى الإيقاعُ السريع - بل : فائقُ السرعة - للعالم من حولنا .

.. وتأتى النصوصُ التراثية ، فتتراكم على أرفف المكتبات وتتزاحم بداخل العقول ؛ لتكون بمثابة مزيدٍ من السلاسل التى تقيِّد الوعى ، وتربطه داخل الكهف ! وأعنى بالنصوص التراثية هنا ، هذا النوع المنتقى .. المختار .. الموجَّه .. المستلَّ بحذر من كتاب الماضى ، ومن ركام المخطوطات بفضل فاعليات العمليات التراثية .

عَمليَّاتُ إخراجِ النصِّ

هناك مجموعة من الخطوات الفنية التى يتم بها استدعاءُ النصوص من الماضى ، وإعادتها للحياة ؛ وهى : التحقيق والنشر ، الفهرسة والتصنيف ، التلخيص والتعريف والشرح . وتحت كل خطوة ، عديدٌ من العمليات الفنية اللازمة لها ؛ فالتحقيق يلزمه حصر النسخ الخطِّية للكتاب المراد نشره .. ثم المقابلة بين أفضل النسخ التى تمكَّن المحقِّقُ من الوصول إليها .. ثم استخراج النص من بين اختلافات النسخ (وذكر الاختلافات فى هوامش التحقيق) .. ثم شرح المفردات والتعليق على بعض المواضع من الكتاب وتخريج الآيات القرآنية والأحاديث النبوي الواردة فيه .. وأخيراً ، إعداد كَشَّافات للكتاب، وكتابة مقدمة للتحقيق ، وإيراد نماذج من المخطوطات التى اعتمد المحقِّق عليها .

وللفهرسة لوازمٌ ومقتضيات . فالمفهرس يعكف على مخطوطات المجموعة المراد فهرستها ، واحدةً واحدة ؛ فيفحصها ويوثِّق عنوانها ومؤلِّفها ، ويورد من أولها وآخرها بعض العبارات المميزة .. ثم يصف المخطوطة من حيث نوع الورق وشكل الخط ، مشيراً إلى ما قد تحمله المخطوطة من إجازات أو قراءات أو هوامش شارحة .. ثم يذكر اسم الناسخ وسنة النسخ (أو يقدَّر عمر المخطوطة بالقرون تقديراً) .. ثم يذكر عدد أوراقها ومسطرة صفحاتها ومقاس الأوراق .. ثم رقم حفظ المخطوطة بالمكتبة المفهرسة .. وأخيراً، ذِكْرُ العلم أو الفن الذى تنتمى إليه هذه المخطوطة أو تلك (وهو ما يُعرف بالتصنيف ) .

أما تلخيص المخطوطة أو التعريف بها أو شرحها ، فهو أمرٌ يلزمه قراءة النص قراءةً متأنية -سواءً كان فى أصله المخطوط أو كان مطبوعاً - ثم تحديد المنهج أو الإطار العام للشرح أو التعريف أو التلخيص . فقد يكون الشرح ممزوجاً بالنص المشروح ، أو يكون بطريقة (قال ، أقول) أو يكون شرحاً للمواضع المستفاقة والتعريف قد يركِّز على المؤلِّف -خاصةً إذا كان غير مشهور- وقد يركز على النصِّ ذاته ، أو على بعض النقاط الواردة فيه. والتلخيص قد يكون للكتاب كله ، أو لفصولٍ وأبوابٍ منه ؛ وقد يحافظ على لغة النص الأصلى ومفرداته وطريقة سرده، أو يعيد كتابته على جهة الإيجاز مستلخصاً أهم النقاط التى وردت فيه.

ولهذه الخطوات الفنية تفاصيلٌ يعرفها المشتغلون بالتراث ، ولهم فى تلك التفصيلات مذاهب وآراء وجولات ، تكسَّرت فيها النصال على النصال ! ولا يعنينا هنا الدخول فى هذه المعتركات الفنية ، وإنما يستوقفنا أمرٌ لافتٌ للنظر .. هو أن تلك العمليات الهادفة إلى إخراج النص من حالة المخطوط (المستور) إلى حالة الكتاب المنشور (المشهور) هى عملياتٌ لم تتم فى عصرنا الحالى بشكلٍ منتظم . فالطبيعىُّ هو أن تبدأ العمليات التراثية بالفهرسة ، لمعرفة الخريطة العامة للتراث المخطوط ، وعلى ضوء هذه المعرفة يكون اختيار النصوص الدالة التى تستحق الإحياء وإعادة البعث بالتحقيق والنشر، ومن جملة النصوص المحقَّقة - أو المخطوطة - يتم اختيار ما يلزم إشهاره وتوطينه فى الوعى المعاصر ، بالشرح أو التعريف أو التلخيص .

غير أن الكهوف التى ذكرناها فيما سبق ، والرغبة فى تأكيد صورةٍ تراثية معيَّنة ، والنزوع الانتقائى ، والمصالح .. أدَّت جميعها إلى إضطرابٍ متعمَّد فى منهجية العملية التراثية بكاملها ؛ بحيث تَمَّ إشهار أوراق بعينها من كتاب التراث، وإخفاء أوراق أخرى (أو فصول كاملة !) والأمثلة على ذلك كثيرة . منها ما نراه من اهتمامٍ - مُبالغٍ فيه - بأحد الفقهاء الحنابلة ، أعنى ابن تيمية .. وإهمالٍ متعمدٍ - ومحاربةٍ - لتيار تراثى كامل ، أعنى التصوف ! والمتابع لآثار العملية التراثية فى السنوات الأخيرة من واقعنا المعاصر ، سوف يلحظ على الفور حضور ابن تيمية ، عبر أعماله المحقَّقة .. متعدِّدة الطبعات .. رخيصة الأسعار - بل المهداة فى أحيان كثيرة ! - ناهيك عن تركيز الأضواء عليها بالعروض والتلخيصات والشروح والبحوث والدراسات. وهذا بالطبع ، يتم فى إطار رؤية سياسية وعقائدية معينة .

لكنه بإمعان النظر فى هذا المثال ، سوف يتضح لنا أمرٌ بالغ الخطورة؛ ذلك أن الاهتمام بالنصِّ التراثى الذى انتجه ابن تيمية ، يؤدى إلى أزمةٍ تتعلَّق به على مستوى الخطاب .. وهو ما يظهر من ارتباك المهتمين بابن تيمية ، الحريصين على حضوره فى ثقافتنا ؛ حينما يجدوا له أعمالاً فى التصوف ، ولايجدوا بُدّاً من نشرها لاستكمال استدعائه إلى حاضرنا . يجدوا له على سبيل المثال : شرح كتاب فتوح الغيب لعبد القادر الجيلانى .. قاعدة فى المحبة .. رسالة فى المعجزات والكرامات وخوارق العادات . وعندما نُشرت الرسالة الأخيرة فى إحدى البلاد الشقيقة ، تنصَّل محقِّق الكتاب من النصِّ الذى ينشره ! بأن كتب فى مقدمته ببنط كبير مزعج ، ما نصه :

لا يا شيخ الإسلام ، إننا نحب الحق ونحب ابن تيمية ، ولكننا نحب الحق أكثر من ابن تيمية ..

وبقطع النظر عن استعارة المحقق للعبارة الأرسطية المشهورة : إننى أحب الحق وأحب أفلاطون ، ولكنى أحب الحق أكثر من أفلاطون ! نقول : بقطع النظر عن ذلك الاستدعاء لصورة بيانية كلاسيكية لها مدلولها وسياقها الخاص، فإن عبارة المحقِّق - التى هى فى حقيقتها اعتذارٌ وإعلان براءة من نصِّ قام هو نفسه بنشره ! - تعكس الأزمة على مستوى الخطاب التراثى . فها هو ابن تيمية الذى شوهد دائماً على جدران الكهف التراثى بصورة الفقيه المناضل، المعادى للتصوف ؛ يبدو فى صورةٍ أخرى - حقيقية - فى شكل مضاد .. وهذا الشكل الجديد ، لايؤدى إلى تدعيم الخطاب المراد تكريسه باستدعاء ابن تيمية ؛ بل يؤدى إلى هدمه وإعادة النظر فيه، بل إعادة النظر فى المفهوم العميق للتصوف . مما يؤدى - بالتالى - إلى تأسيس خطاب آخر، جديد ؛ غير مرغوب فيه من جهة المهتمين بابن تيمية والحريصين على استدعائه.

ومثالٌ آخر، مقابلٌ لما سبق ؛ نراه فى حالة الهوس بابن رشد .. إذ أن بعض أهل الكهف ، ممن يعتقدون فى أنفسهم أنهم أكثر عقلانية ! يلجأون إلى النصِّ الرشدى فيعكفون عليه لإظهار مفاتن عقلانيته ، ويحلِّقون منه إلى عوالم خيالية لاتوجد إلا فى أذهانهم ، لتأسيس خطابٍ مضاد للخطاب -المتوهَّم- الذى يطرحه معاصرونا من أصحاب ابن تيمية .. غير أن أصحاب ابن رشد ، لن يلبثوا أن يقعوا فى تناقض داخلى شبيه بما وقع فيه المعسكر المقابل لهم بخصوص ابن تيمية ! إذ سيكتشف الرشديون ، أن صورة ابن رشد المستدعاة، ليست حقيقية .. وبالتالى ، فما استخلصوه منها : غير حقيقى .

فابن رشد كان فى أساسه فقيهاً ، وعندما كتب فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال إنما كان يجيب عن سؤالٍ شرعىٍّ رُفع إليه باعتباره قاضى المالكية فى الأندلس ، وما (فصل المقال) إلا فتوى شرعية لفقيه مستنير لدينا منه الآلاف فى تراثنا ! وما جهدُ ابن رشد الفلسفى ، إلا خطوة تراجعية ارتد فيها الرجلُ عن سياق التطور الكبير الذى أنجزه الفلاسفة المسلمون، بعودته إلى أرسطو الذى لخص ابنُ رشد كتبه تلبيةً لأوامر سلطانية وردت إليه من الخليفة أبى يعقوب سلطان قرطبة . وما كان ابن رشد بشهيدٍ فى أرض الفلسفة -كما يزعمون - وما اختفت الفلسفةُ من تراثنا بعد محنته مع السلطان يعقوب بن يوسف المنصور ! فقد عاش ابن رشد حياته فى كنف الأمير أبى يعقوب، ومن بعده فى كنف ولده الأمير أبى يوسف يعقوب المنصور.. فتولَّى قضاء قرطبة وصار طبيب السلطان، وكان له شأنٌ كبير بين معاصريه .

غير أن المنصور غضب عليه مرةً، لأنه كان يرفع معه التكليف ويخاطبه بقوله اسمعْ يا أخى وهو ما كان السلطان يمتعض منه، حتى أنه استمع فيه إلى وشايات أعدائه، وكان الوقت آنذاك زمن حربٍ واقتتالٍ ولامجال للمماحكات. فأمر المنصور بنفى ابن رشد إلى بلدة ألْيُسَانة وهى بلدة هادئة قريبة من قرطبة، أغلب سكَّانها من اليهود الذين كانوا آنذاك يشتغلون بالعلم، كما أمر السلطان بإحراق كتبه - التى هى فى معظمها شروحٌ على كتب أرسطو، وضعها ابن رشد بتكليفٍ سلطانىٍّ سابق - فأُحرقت نسخٌ من هذه الكتب بقرطبة، فى مشهدٍ مسرحىٍّ لايعنى أكثر من إظهار غضب المنصور على ابن رشد! إذ الجميع يعلم أن لهذه الكتب نسخٌ أخرى لاحصر لها، وأنها ستبقى من بعدهم إلى زماننا هذا، حيث تمتلىء رفوف مكتباتنا بنشراتها وتحقيقاتها وركام من الدراسات حولها.

ولم يكن ابن رشد، وحده، فى هذه المحنة العارضة ، وإنما انصبَّ غضب المنصور وقتها ، على جماعةٍ من المفكرين والعلماء ، منهم : القاضى أبو عبد الله الأُصولى، الشاعر أبو العباس الحافظ، أبو جعفر الذهبى، أبو الربيع الكفيف، محمد بن إبراهيم .. وبعد سنةٍ واحدة وشهورٍ ثمانية ، رَضِى السلطان على ابن رشد، وعاد الأخير إلى قرطبة ليتولَّى منصبه السابق، فيصير طبيب البلاط، حتى توفى ، فتولَّى بعده ابنه أبو محمد عبد الله المنصب نفسه.. ويقال : إن بعض أولاده الآخرين، لجئوا بعد وفاته إلى بلاط هوهنشاوفن (بألمانيا) وعاشوا هناك! وكان أصعب ما مَرَّ على شهيد الفلسفة بحسب شهادته هو، التى رواها عنه الأنصارى (كاتب سيرته) هى ، بالنص :

أعظم ما طرأ علىَّ فى النكبة، أنـِّى دخلتُ أنا وولدى عبد الله مسجداً بقرطبة، وقد حانت صلاةُ العصر، فثــار لنـا بعض سفلة العامة، فأخرجونا منه !

أمّا الزعم بأن ابن رشد هو أعظم الفلاسفة المسلمين وآخرهم، فما هو إلا تهويلٌ ومبالغة. فقد كان الرجل فيلسوفاً، كالآخرين . يسعى لتأكيد الصلة بين الدين والفلسفة ، كالآخرين . ويجتهد فى بيان أهمية إعمال العقل فى كل الأمور، كالآخرين . ويضع المؤلفات ويدبج الفتاوى وينتقد السابقين ، كالآخرين .. وهو -بالقطع- ليس آخر الفلاسفة الإسلاميين، وإلا فأين سنضع نصير الدين الطوسى وأثير الدين الأبهرى وأفضل الدين الخونجى وابن النفيس وعضد الدين الإيجى ، وغيرهم؛ وكلهم من أهل القرن السابع الهجرى (عاش ابن رشد ، وتوفى ، فى القرن السادس الهجرى) وأين سنضع اللاحقين عليهم من أهل القرون التالية، أمثال صدر الدين الشيرازى وسعد الدين التفتازانى والسيد الشريف الجرجانى .. وغيرهم، ناهيك عن فلاسفة الصوفية ، من أمثال ابن عربى وعبد الكريم الجيلى .. وغيرهما.

ولم يكن ابن رشد طبيباً عظيماً، وكتابه المتداول اليوم الكليات هو محض كلامٍ نظرىٍّ تقليدىٍّ فى الطب، لم يخرج عما كان سائداً من قبل ابن رشد .. فالكتاب لايمثل فتحاً طبياً، ولا اعتمد عليه طبيبٌ واحد، ممن جاءوا بعد ابن رشد ! ولقد أمضيتُ السنوات الطوال فى دراسة تاريخ الطب العربى الإسلامى، وفهرستُ آلاف المخطوطات؛ ولم أجد إشارةً واحدة لابن رشد عند كبار الأطباء اللاحقين عليه، ابتداءً من موفق الدين البغدادى وابن النفيس (القرن السابع الهجرى) حتى داود الأنطاكى والقوصونى (القرن الحادى عشر الهجرى) .. بل إلى يوم الناس هذا ! فهذا نصيبه من الطب، والرجل لم يزعم أنه طبيب عظيم، وإنما وجد معاصره ابن زهر يضع كتاباً فى المعالجات ومداواة الأمراض والأمور الجزئية .. فأراد هو أن يستكمله بالكلام فى الكليات. وكل مَنْ درس تاريخ العلوم ، يعرف أن الطب - وسائر العلوم - كان يتقدَّم عبر التاريخ الإنسانى ، بالبحوث الجزئية وبالاكتشافات وبالمعالجات .. وليس بالكلام فى الكليات .

وأخيراً ، فابن رشد ليس عقلانياً هائلاً كما يزعمون .. فهو ، كسائر فلاسفة الإسلام، يحتفى بالعقل . غير أن بعض هؤلاء الفلاسفة، ومنهم أستاذه ابن طفيل، تجاوزوا البحث العقلى وقرنوه بالذوق والإدراك فوق الحسى وهو ما لم يفعله ابن رشد .. وكلهم أهلُ علمٍ وفلسفةٍ وفضل، ولافضل لبعضهم على بعض بهذه العقلانية الموهومة !

وهكذا يتأزم الخطاب العقلانى المتكئ على ابن رشد .. المهوِّل به .. المهلِّل له . ليجد نفسه فى الأزمة نفسها ، التى يعانى منها الخطاب السَّلَفى المتكئ على ابن تيمية .. المهوِّل به .. المهلِّل له ! مما يؤدِّى فى النهاية، بالخطاب التراثى كله؛ إلى حالةٍ من التهويل والتهليل الذى يهدِّد الوعى التراثى كلِّه .

الصُّورَةُ التُّرَاثِيَّـةُ

جاءنى يوماً صحفىٌّ شاب ليجرى حواراً سوف تنشره إحدى الجرائد الخليجية ، وبدا الشابُ متحمِّساً ، تتقافز هِمَّتُهُ .. وبدأ معى بأن قال -أول ما قال - أنه سوف يضع الحوار تحت عنوان (د. زيدان يقول للشباب العربى : لاتقرأوا كُتب الجنس والروايات الرخيصة ، واقرأوا كتب التراث) أفزعتنى مقالته ومبادرته إلى وضع كلام - لم أقله - على لسانى ، بهذه البساطة والحسم .. أفهمته أننى لا أقول بذلك ! وبأننى على العكس مما يظن ، لا أجد بأساً فى أن يقرأ الشباب هذه الكتب والروايات . وسألته عن السبب فى اعتقاده أن الجنس والروايات الرخيصة، أمرٌ يناقض كتب التراث ؟ قال ما نصُّه : لأن التراث محترم !

ولما أفهمته أن تراثنا العربى لايخلو من هذا النوع من الكتب التى يظنها غير محترمة ، وضربت له أمثلةً من بعض مؤلَّفات السيوطى وابن كمال باشا، ومن قبلهما ابن سينا .. وذكَّرته بألف ليلةٍ وليلة ! اندهش الشاب ، وحوقل، وارتبك، واضطرب، وبالطبع ، لم نجر يومها أية حوارات .. إذ انتفى المطلبُ الذى كان يريده أصحاب الجريدة !

وعلى الحقيقة ، فلم يكن هذا الشاب إلا صورة - أو : حالة - تعكس طبيعة الوعى المعاصر بالتراث .. وإن شئت الدقة قلت : تعكس الصورة التى ارتسمت فى الأذهان عن تراثنا ، بفعل العمليات التراثية الموجَّهة التى أشرنا إليها منذ قليل ، والتى أنتجت على مستوى الخطاب التراثى صورةً شوهاء، ناقصة، لتراثنا .

ولم يقتصر التشوُّه فى الصورة التراثية على موضوع التراث فحسب، بل تعدَّى إلى طبيعة المشتغلين بالتراث ! وهو تجلَّى واضحاً فيما كتبه أديب معاصر، هو محمد مستجاب الذى أراد أن يحتفى بصدور كتابٍ لى ، فكتب فى جريدة أخبار الأدب ما نصه : التراثيون نوعان : واحد يقودك لعالم التراث فيجعلك تكره أهلك وتكره اليوم الذى فكرت فيه أن تقرأ شيئاً من التراث، ونوع آخر يقودك فى رفق عصرى ، ويسير أمامك مضيئاً لجوانب من التراث واسعة ومتألقة ، حتى تكاد ترفض أن تعود للمعاصرة .. إلخ .

وتلك الأمثلة هى محض علامات دالة على مقدار التشوه فى صورة التراث - والتراثيين - فى أذهان معاصرينا ، أو بالأحرى : فى ثقافتنا المعاصرة .. والتى هى نتيجة مباشرة للتوجُّه الأعرج نحو المخزون التراثى ، والنظرة العوراء إلى موروثنا الثقافى .

تَأْسِيسُ الخِطَابِ

لايمكن لثقافتا المعاصرة تأسيس خِطابها التراثى ، وهو الخِطاب الذى نحن فى أشد الحاجة إليه لرؤية الذات والتفاعل مع الآخر ، إلا انطلاقاً من تعامل رشيد مع النص التراثى المؤسِّس للخطاب . والتعامل الرشيد هذا ، لن يكون إلا بترشيد العمليات التراثية وتطوير تقنياتها لإنجاز الخطوة المتعلِّقة بالنصوص - أولاً- ثم تخليق صورة حقيقية لهذا التراث الممتد فينا عبر اللغة والدين والموروث الاجتماعى .

ومقصودنا بترشيد العمليات التراثية وتطوير تقنياتها ، هو العمل من أجل استنارة العاملين فى حقل التراث ، والأخذ بيدهم لإخراجهم من كهوف النصوص إلى آفاق النظرة التراثية الكلية ، التى لاتعطى الأولوية لجانبٍ من التراث على حساب جانبٍ مقابل ، وإنما تنظر للمنظومة التراثية فى تكاملها .. وتدرك أن النتاج التراثى متساندٌ ، ولايمكن إدراك مفرداته بمعزل عن بقية الشروط الموضوعية التى أنتجت هذا النص أو ذاك ، والتى رسمت هذه الشخصية أو تلك. إذ لولا الغزالى لما كان ابن رشد ، ولولا القلق السياسى لما كان مقتل الحلاج ، ولولا علم الحديث لما اختلف الفقهاء ، ولولا سقوط بغداد لما دوَّنت القاهرة التراث من جديد ، ولولا خلاف بركة خان مع ابن عمه (هولاكو) لما انتصر المصريون فى عين جالوت ، ولولا خروج التتار لما تأزَّم فكر ابن تيمية ، ولولا الوهابية لما عاد ابن تيمية للحضور ، ولولا حضوره لما تأجَّجت النزعات الأصولية ، ولولا تجُّجها لما بطشت الحكومات المعاصرة بالإسلاميين ، ولولا هذا البطش لما وجد الحكام سبيلاً لإهدار الديمقراطية !

وعلى هذا النحو التساندى يمكن إدراك الخريطة التراثية فى تكاملها ، ومن بعد ذلك يكون الشروع المتطور فى العمل التراثى .. بالاعتماد على التكنولوجيا الحديثة فى إنجاز عمليات الفهرسة ، والتحقيق ، والتعريف (على نحو متكامل) .. وبالاعتماد على مناهج أحدث ، وأوفى ؛ لخوض غمار هذه العمليات . وبهذا ، يمكن إدراك الصورة التراثية ، ورؤية النِّصِّ ناصعاً .. ومن ثم، تخليق خطاب تراثى يتجاوز النَّصَّ المؤسس له ، وينطقه بأشياء جديدة . ولنعطى مثلاً على ما نقول ، لنختم به هذا التطواف :

من المناطق المهجورة فى العملية التراثية الحالية ، جانب مهم من جوانب الموروث العربى ؛ أعنى : تاريخ العلوم .. ولانريد هنا أن نستعرض بالتفصيل مقدار الهجر والنقص والتشوه والتكرار فى هذا المجال المهم ، إذ تكفى الإشارة إلى حقائق بسيطة من نوع : أن ابن الهيثم لم تزل أغلب أعماله العلمية مخطوطات لم تنشر .. أن ابن النفيس (ولنا شكوكٌ على لقبه هذا) لم يزل معتقلاً فى عبارة (مكتشف الدورة الدموية الصغرى) مع أن للرجل إسهامات عملية تتجاوز ذلك بكثير .. أن ابن سينا لم يُدرس دراسةً وافيةً كطبيب ، ولانزال ننظر فى إنتاجه الفلسفى ونجترُّ الكلام ، مع أن الطب هو مجال إبداعه وليس الفلسفة .. أن أجيالاً كاملة من علماء العرب فى شتى الفروع ، لم يكتب عنهم سطرٌ واحد فى واقعنا الثقافى المعاصر .. إلخ .

وترشيد العمليات التراثية فى مجال تاريخ العلوم ، من شأنه تبيان النَّصِّ العلمى العربى / الإسلامى ، فى تجلياته المختلفة .. ثم يكون الخطاب و الرؤية لهذا النص التراثى . فعلى الحقيقة ، فإن نص ابن الهيثم - أو غيره من العلماء - لايهُّمنى إلا بمقدار تعرُّفى إلى كيفية التفكير المنهجى عند الرجل ، وبمقدار إدراكى لطبيعة النظرة العلمية عنده، ولماذا تتجلَّى هذه النظرة حيناً وتختفــى أحياناً ؟ وهل يمكن تأسيس منهجيةٍ علمية جديدة اعتماداً على جهود ابن الهيثم؟ أم أن ذلك غير ممكن ؟ وكيف تطورت النظرية المتعلقة بالإبصار فى تراثنا .. إلخ .

ومن خلال ذلك كله ، يمكن تأسيس خطاب معرفى ، ينطلق من نصِّ ابن الهيثم .. أو غيره من العلماء العرب المسلمين ، الذين لم يزل تراثهم مجهولاً فى ثقافتنا المعاصرة ؛ مع أن لهم حضوراً فى الثقافة الغربية (المعاصرة ) كنتيجة لاهتمام المستشرقين بتراثهم !


راجع المقال هنا على موقع يوسف زيدان